ليست القضية شخصية بين النائب زياد الحواط والمدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، إلا أن المسألة تحوّلت مواجهة بين النهج القضائي “الانتقائي” و”الفولكلوري” الذي تمثّله عون والنهج القضائي السليم والمؤسساتي الذي يطالب به الحواط وهو النهج الذي تريده غالبية الشعب اللبناني.
القصة بدأت بين النائب الحواط والقاضية عون، عندما أطل الأول عبر برنامج تلفزيوني قائلاً أنه “لا يمكن إبقاء النظام المصرفي برمّته تحت رحمة مزاجية قاضية”، مؤيداً تحقيقاً مع المصارف من قبل قضاءٍ عادل ونزيه، معتبراً أنّ المخالفات التي تقوم بها عون في موضوع المصارف ستدمّر المؤسسات المصرفيّة.
طبعاً كان الحواط يقوم بواجبه كنائب منتخب من الشعب ويعبّر عن مزاج ناخبيه وكل الشعب اللبناني، لأنه بات نائباً عن الأمة، إلا أن عون رغم انتقادات طالتها من شخصيات سياسية واقتصادية وقضائية وناشطين وناشطات على وسائل التواصل الاجتماعي طوال فترة عملها، لم تستسغ كلام الحواط “الانتقادي” الذي يكفله الدستور، فاختارت الادعاء عليه بجرائم القدح والذم والتشهير وتهديد قاضٍ!
لكن الفضيحة أن عون تجاوزت المادة 39 من الدستور التي تنص بوضوح انه لا يجوز اقامة اي دعوى جزائية على النائب بسبب أفكاره وآرائه طيلة مدة نيابته. وهذا النص يكرس حصانة مطلقة للنائب في التعبير عن رأيه، بل واجبه ان يمارس هذا الحق، ويعبر عن ناخبيه وان يتناول القضايا الوطنية كقضية ادعاء غادة عون على المصارف اللبنانية ومن حقه ان يعلق ويبدي موقفاً.
في المقابل، تقدم الحواط بواسطة وكيله المحامي غابي جرمانوس بشكوى أمام هيئة التفتيش القضائي بوجه القاضية عون لإخلالها بما يفرضه قانون القضاء العدلي من موجبات ترتبط بسلوكية القاضي ولمخالفتها أحكام المادة ٣٩ من الدستور اللبناني.
ليس مستغرباً ما حصل، لأن عون مختلفة مع أكثرية خصوم “التيار الوطني الحر”، وتثير قضائياً كل الملفات التي تزعج رئيس “التيار” أو تستهدف خصومه، وهذا لم يعد سراً على أحد، فالقاضية عون حظيت باهتمام الرئيس السابق ميشال عون شخصياً وباتت من أشهر القضاة، في الدوائر الدولية المعنية بلبنان، لأنّها تحمل الاسم الذي أوردته التقارير الدبلوماسية في تعدادها أبرز الأسباب التي دفعت بالرئيس عون الى منع صدور التشكيلات والمناقلات القضائية التي أجراها مجلس القضاء الأعلى، في مناخ من الضغط الدولي لإصلاح القضاء وتحصين استقلاليته، كبند ملح من بنود برنامج إنقاذ لبنان الذي وضعته “الدول المانحة” ولم تنسه المبادرة الفرنسية.
أما مجلس القضاء الأعلى فينظر نظرة قاسية الى غادة عون، لأنّها، خدمة لميولها السياسية، تتجاوز صلاحياتها القانونية، وتُثير معارك سياسية، وتخرق واجب التحفّظ، مستندة، في ما تقوم به، الى حماية تيار سياسي. وقد عجز مجلس القضاء، مراراً وتكراراً، مستعملاً الوسائل القانونية المتوافرة لديه، عن ردع القاضية عون، فتركها لمصيرها ممّا أدخلها، في معركة مفتوحة، مع الأطراف التي تُلاحقها، وهي أطراف تملك ما يكفي من قوة إعلامية ومالية وسياسية.
وهذه الحقيقة، دفعت بالقاضية عون الى ممارسة ضغوط على زملائها، من أجل مناصرتها، متوسّلة إطلالات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تتناسب، بطبيعة الحال، و”واجب التحفّظ”، ولكنّ الجميع، يتقدمهم مجلس القضاء الأعلى، التزموا الصمت، على خلفية أنّ معركتها ليست معركة قضائية بل سياسية. علماً ان المادة 45 من قانون السلطة القضائية يحظّر على القاضي التدوين أو تقاسم أي معلومات شخصية أو صور وشطب أي محتويات في حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي تمس هيبته ووقاره أو التأثير على استقلاليته وحياده أو فقدانه ثقة المواطنين وبصورة تضمن عدم استرجاعها.
والمادة 52 من قانون السلطة القضائية يحظّر على القاضي الإدلاء بالتصريحات والمعلومات والآراء عبر مختلف وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو المكتوبة أو المواقع الالكترونية إلا بعد الحصول على موافقة رئيس مجلس القضاء الأعلى المسبقة. فالقاضية عون تجاوزت المادتين المذكورتين اعلاه على نحو واضح مراراً وتكراراً.
لقد فتحت “القوات اللبنانية” المعركة القضائية على عون على خلفية ما حصل مع النائب الحواط، وطالبت رئيس مجلس القضاء الاعلى والمدعي العام التمييزي وهيئة التفتيش القضائي، باتخاذ موقف واضح والطلب من مجلس القضاء، اعلان عدم اهلية القاضية عون، استناداً إلى المادة 95 من قانون التنظيم القضائي التي أعطت لمجلس القضاء الأعلى صلاحية مطلقة غير محدودة زمنياً لإعلان عدم أهلية القاضي الأصيل “في أي وقت” كما أن إعلان عدم الأهلية لا يحتاج إلى أي إجراء آخر سوى قرار مجلس القضاء الأعلى الذي يتخذ بمعزل عن الطرق التأديبية ويكون نافذاً بذاته.
ولمن لا يزال لديه شك في مسألة تجاوزات القاضية عون التي لا تعد ولا تحصى، سنستعرض الآتي:
أولاً: وجّهت القاضية غادة عون مذكرة الى 7 مصارف لبنانية مطالبة إياها برفع السرية المصرفية عن حسابات كبار العاملين فيها من حاليين وسابقين، بذريعة ان الهندسات المالية التي حصلت سابقاً بين عدد من المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لا تخلو -من وجهة نظرها- من تبييض الأموال.
ثانياً: ادعت القاضية غادة عون على سلامة بتهمة اختلاس أموال عامة والتزوير وتبييض أموال وتهريبها الى الخارج والتهرّب الضريبي والإثراء غير المشروع، وأحالت الحاكم الى قاضي التحقيق، وداهمت مصرف لبنان ودخلته عنوة بهدف اعتقاله، كما داهمت منزلاً عائداً له وادعت بأنها لم تجده.. كما ادعت على شقيق الحاكم رجا سلامة وأمرت بتوقيفه… وكل ذلك خدمة لـ”عهد جهنم”.
ثالثاً: لقد شنّت القاضية غادة عون حملة مقصودة ضد المصارف وضد حاكم مصرف لبنان تحت عنوان محاربة الفساد، وقد تبيّن للجميع ان تلك الحملة كانت لغايات سياسية، إذ حمّلت عون القطاع المصرفي وحده مسؤولية كل الخراب مع التغاضي عن دور الطبقة السياسية.
رابعاً: بماذا تفسّر القاضية غادة عون “صحبتها” مع المرشح السابق الفاشل في الانتخابات النيابية الأخيرة عمر حرفوش الذي استضاف القاضية “النزيهة” في صالة ميديسيس بمجلس الشيوخ الفرنسي، وما هو تفسير حرفوش في ذلك الوقت لقوله: “الى كل ملعون ينتقد استضافتي للريسة عون أقول: أنا شخصياً عوني”..؟ إنّ اجتماع القاضية عون بعمر حرفوش أثار العديد من التساؤلات. فحرفوش رجل أعمال ثري، تدور حوله العديد من التساؤلات. كما كان لافتاً في ذلك الاجتماع وجود مؤسّس Sherpa وليام بوردون والذي ظهر جليّاً في صورة مع القاضية عون وعمر حرفوش. وبوردون هو الذي بادر الى فتح قضية في فرنسا ضد رياض سلامة. أليْس الأمر مريباً؟ إنّ ظهور القاضية عون في تلك الندوة مثير للجدل. إذ وفقاً للمعايير الأخلاقية الأساسية التي ينبغي أن تحكم القضاة في لبنان، يجب امتناع القاضي عن الاستعراض الإعلامي والذهاب نحو المجاهرة بآراء معيّنة.
خامساً: الغارة على شركة مكتّف. لقد أكملت القاضية غادة عون تمرّدها، بعد إحالتها الى هيئة التفتيش القضائي ودعوة مجلس القضاء الأعلى للاستماع إليها… فقررت المضي قدماً في ملف سحب الدولار من السوق الى الخارج متهمة “شركة مكتف للصيرفة” بأنها هرّبت 9 مليارات دولار الى الخارج لمصلحة 5 مصارف محلية، وأنها لا تزال تعمل على تهريب الأموال.
لقد تحدّت القاضية عون قرار مجلس القضاء الأعلى فأقدمت بمؤازرة “أزلامها” على خلع البوابة المؤدية الى الباحة الخارجية وقامت بتكسير الأبواب مستعينة بحدادين ونجارين ودخلت الى المكتب الذي يحتوي على الملفات. إشارة الى انها دخلت هذا المكتب من دون عناصر من الضابطة العدلية باستثناء مرافقيها الشخصيين وحملوا الكومبيوترات والمستندات الموضّبة في أكياس من النايلون ووضعوها في سيارة عون. وكانت نتيجة اقتحام شركة ميشال مكتف، وفاة صاحبها بأزمة قلبية خلال وجوده في فاريا، بعد إحالته الى المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامر ليشع. علماً ان مكتف هو صاحب أكبر شركة شحن أموال في لبنان، وشركته هي الوحيدة التي تملك ترخيصاً للتعامل مع الخزانة الأميركية.
سادساً: لقد تمت إحالة القاضية عون على المجلس التأديبي من قِبَل هيئة التفتيش القضائي بتهمة 12 دعوى ضدها وبسبب تمرّدها على قرار رئيسها مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات.
سابعاً: سارع دولة رئيس مجلس النواب نبيه بري وعقيلته السيدة رنده الى رفع دعوى عليها لدى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات للملاحقة والتحقيق وإجراء المقتضى القانوني بعد نشرها لائحة بأسماء مسؤولين لبنانيين لديهم حسابات مجمّدة في سويسرا… لكنّ القاضية عون لم تمثل أمام القضاء ولم تحضر جلسة الاستماع إليها.
ثامناً: تقدّم المحامي نشأت الحسنية بوكالته عن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بدعوى مماثلة ضدها.
قد يخيّل للبعض أن أهداف القاضية عون ونياتها سليمة، في بلد يشكو من قضاء يصمت عن الفساد والهدر وسرقة المال العام، ولكنّ على هذا “البعض” أن لا ينسى بأن القاضية عون أفسدت مكافحة الفساد بالتسييس، متغافلة عن حقيقة ساطعة، وهي أنّ أساس العلّة في القضاء اللبناني هو التسييس، وهذا ما ينكب على علاجه الإصلاحيون في لبنان والخارج، فالمطالب المتكررة بوجوب التوصل الى قانون يوفّر استقلالية القضاء، هدفه توفير الدواء الناجع لداء القضاء المميت، أي “التسييس”.
إنّ القاضية عون جنحت نحو “التسييس” بقوة ووقعت في فخ الشعارات الكبرى، فإذا كانت الجهة التي تميل إليها تحترف إطلاق الشعارات، فهي احترفت ملاحقات بخلفية شعاراتية، لا أكثر ولا أقل، إذ إنّ كلّ الملفات التي فتحتها، وغالبيتها، بوجه خصوم “العهد” و”التيار”، لم تحقق أيّاً من أهدافها، بل أتت بنتائج عكسية، بحيث أضرّت بمصالح الدولة من دون أن تُضر، فعلاً، بالمستهدفين بها.
لا تُغلّب عون القانون دائماً، إنما تُرجّح كفّة ما تعتقدُ أنّه الحق من منطلق “عوني”، منظارها خاص للتعامل مع القضايا. ميزان العدل مكسورٌ عندها. فهي حينما تتشدد ضد من تعتبرهم فاسدين، تضعف أمام المحسوبين على التيار الذي يرفع شعار التغيير والإصلاح. وهذا يراه كثيرون بأنه فساد سياسي. اندفاعها يتحوّلُ إلى تهورٍ. فتُطيح بخطوة غير محسوبة كل شعارات الإصلاح التي ترفعها.
لقد تحوّلت إلى قاضية خارجة عن القانون في الفترة الأخيرة، فهي تقترف خطايا قضائية بالجملة وآخرها الادعاء على النائب الحواط، لذلك تزداد النقمة عليها قضائياً. فهي جعلت نفسها سيفاً مصلتاً على رقاب طرف سياسي مع طرفٍ آخر.
لقد تحوّلت قضية القاضية غادة عون الى مأساة وملهاة في الوقت نفسه. خلافات بالجملة ودعاوى تجاوزت ضدها “المعقول والمقبول”. إلا أنها لا تمثل أمام القضاء، بل هي تعتبر نفسها أعلى من القانون!
لكن النائب زياد الحواط لن يتوانى عن مواجهتها حتى النهاية، مدعوماً من رأي عام كبير، يرى في تصرفات هذه القاضية هرطقة ما بعدها هرطقة، ومخالفة للقانون وبالتالي يجب عزلها وسحب الملفات من يدها وإزالة الصلاحيات المعطاة لها ومن ثم ملاحقتها كونها خالفت القوانين بأكملها وارتكبت جرائم جزائية.