في بضع ساعاتٍ من الأمس، ارتفع سعر صرف دولار السوق الموازية من 110 آلاف ليرة إلى 143 ألفاً ليعود وينخفض إلى 110 آلاف، عقب تدخّل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بعد الظهر ليُعلن عن “عملية مفتوحة ومستمرة لشراء الأوراق النقديّة اللبنانية وبيع الدولار نقداً على سعر “صيرفة” المحدَّد بـ90 ألف ليرة مقابل كل دولار بدءاً من 21 آذار الحالي”. هذه العملية أتاحت لمصرف لبنان لمّ الدولارات، فيما الكلام عن حماية القدرة الشرائية بات عبثياً بعدما فقدت الليرة قيمتها كما فقدت قوة التعامل بها في سوق باتت مُدَولرة في شكل كامل.
هذا التدبير يبقى مؤقتاً لا يعالج الأزمة بل يُمعن في تعميقها واقتطاع المزيد من أموال الناس. فالتسعير وفق منصة “صيرفة” لسداد الفواتير أصبح 90 ألف ليرة، والدولار الجمركي 45 ألف ليرة، أما السحوبات فلا تزال على 15 ألفاً، ومقاصة الشيكات على أساس 10 في المئة من قيمة الشيك.
في الغضون، يتسابق أركان القطاعات الاقتصادية والخدماتية كافة على المطالبة بدولرة الفواتير والأسعار على مثال السوبرماركات… من الصيدليات، إلى قطاع المحروقات، فالأقساط المدرسيّة وغيرها.
إذا ما أحكم اقتصاد الكاش والدولرة قبضتهما على مفاصل الاقتصاد، كيف سيتلقف المواطن هذا العبء في حمأة أزمة معيشية واجتماعية مفتوحة على المجهول؟
رئيس دائرة الأبحاث والدراسات المالية والاقتصادية في بنك بيبلوس الخبير المالي والاقتصادي الدكتور نسيب غبريل يشير في حديث لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، إلى أن “مؤشر السلع الاستهلاكية الصادر أخيراً عن إدارة “الإحصاء المركزي”، يكشف عن ارتفاع الأسعار 190 في المئة بين شباط 2022 وشباط 2023، وارتفعت 25 في المئة فقط بين كانون الثاني وشباط 2023”.
ويؤكد أن “دولرة الأسعار لا تحل هذه المشكلة، حتى أن مَن يطرح موضوع الدولرة لم يدّعِ أنها الحل، إنما محاولة لإضفاء بعض الشفافية على التسعير”، ويقول، موضوع الدولرة لم يبدأ في قطاع السوبرماركت، بل سبقته وزارة السياحة حين سمحت أوائل الصيف الماضي للمطاعم والمقاهي والمرابع الليلية والمنتجعات التسعير بالدولار والقبض بالدولار النقدي أو بالليرة وفق سعر صرف السوق الموازية.
ويوضح أن “هدف الدولرة ليس تجميد رفع الأسعار، فالتسعير بالدولار لا يعني أن الأسعار لن ترتفع بالدولار، لكن ارتفاعها لا يكون بالسرعة التي ترتفع بها بالليرة اللبنانية بفعل ارتفاع سعر الصرف المتسارع، كما يُظهر المعنيون ولا سيما التجّار. لكن من باب الإنصاف، إن كانت هناك سلعة ثمنها 5 دولارات فيختلف سعر صرفها مع تفاوت سعر الدولار في السوق السوداء. من هنا تختلف الكلفة لدى مَن يدفع بالليرة اللبنانية في ظل التدهور الحاد في قيمتها”.
ويدحض صحة الكلام عن أن معظم اللبنانيين يتقاضون رواتبهم كاملة بالدولار الأميركي، ويقول “الكلام غير صحيح على الإطلاق، بل هناك جزء من اللبنانيين يتقاضى قسماً من رواتبه بالدولار والقسم الآخر بالليرة، كما أن هناك فئة من المواطنين تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية بشكل أساسي أي بنسبة 70 و80 في المئة، ورواتب البعض الآخر 100 في المئة بالليرة. لذلك ستؤثّر الدولرة حتماً على القدرة الشرائية لدى اللبنانيين”.
وإذ يؤكد أن منصّة “صيرفة” لا تشكّل الحل، يلفت إلى أنها “تساعد اللبنانيين نوعاً ما على الحصول على بعض الدولارات لمواجهة موجة الغلاء والتضخّم”. لكنه يكرّر التأكيد أن “أحداً لا يدّعي أن الدولرة هي الحل، لا وزارة الاقتصاد والتجارة ولا أصحاب المحال التجارية ولا غيرهم”.
ويعتبر غبريل أن الحل الناجع يتأتى من “لجم الأسعار، على الرغم من غياب الرقابة ووجود نحو 60 مراقباً لدى وزارة الاقتصاد”، ويسأل في هذا السياق “بما أن بعض الأحزاب أدخل إلى مؤسسات القطاع العام 38 ألف شخص ما بين العام 2014 و2018 وغالبيتهم بدون وظيفة، لماذا لا تضعهم في تصرّف وزارة الاقتصاد والتجارة ليزيد عدد المراقبين ليتمكنوا من القيام بمهامهم بشكل كافٍ؟
ويضيف، إن أردنا لجم التضخم، فهناك وسيلتان نقدية ومالية وكلتاهما معطّلتان:
– الأولى تقليدية معروفة تتمثل في السياسة النقدية من خلال استخدام الفائدة المرجعية لدى مصرف لبنان، إذ أن البنوك المركزية يمكنها تحريك الفائدة لسحب السيولة من الاقتصاد، بحيث يتم رفع الفائدة للجم التضخّم. وهذه أداة رئيسية للمصارف المركزية حول العالم. ففي لبنان لا تزال أداة الفائدة معطّلة منذ العام 2019، نظراً إلى غياب تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان من القنوات الرسمية أي من خلال القطاع المالي كي يتمكن مصرف لبنان من استخدام الفائدة. ومن جهة أخرى أصبح اقتصادنا “كاش” مدولَراً وبالتالي لم تعد المعاملات الاقتصادية تمرّ من خلال القطاع المصرفي.
– الوسيلة الثانية: النفقات العامة وهي معطَّلة بدورها. لقد أقرّت موازنة العام 2022 في أواخر أيلول منه ولم نعلم حتى اليوم أرقام المالية العامة من هذا العام! كما أن موازنة العام 2023 لا تزال في طور الدراسة ومسارها طويل ومعقَّد.
في ضوء ذلك، يرى أن “الحل يكمن في الإسراع في الإصلاحات كي تتمكن السلطة النقدية من استخدام أداة الفائدة للجم التضخم، لتصبح مهمة مصرف لبنان الرئيسية لجم التضخم دون سواه. ويشير إلى أن استقطاب الأموال من الخارج لا يتم إلا باستعادة الثقة التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الإصلاحات البنيوية.