!-- Catfish -->

المنحازون للوطن

إذا كنا مع خيار الحياد، على مستوى تبني الدولة موقفاً يبعدها عن دائرة التكتلات، والنزاعات، والصراعات المسلحة، ما يجعل الوطن واحة سلام، محترم السيادة، محمي الكيان، لكننا، مع ذلك، لسنا على الحياد في موضوع الانحياز للبنان، هويةً، وانتماءً، وولاءً، وذوداً عن أرضه ووجوده. وهنا، بالذات، يطرح السؤال: هل شراكة المواطن بالوطن، هي أمانة، أم انفصال؟ وهل العلاقة بينهما هي نزعة الى الخيانة أم الى العهد؟

لقد وصفت في مقالتي “لن نقبل بعفا الله عما مضى”، مدى خطورة أن يستمر السلطويون، في أي موقع كانوا، في خطة تشقيع ثروات من نهْب الدولة، وممارسة قمع للناس على مستوى حقوقهم، وتمييع مواد الدستور والقوانين لتمرير صفقاتهم المشبوهة… وطالبت بمواجهة صلبة، ومحاسبة شفافة، وعقاب محق للذين عاثوا فساداً، ما أودى بالبلاد الى منفى جهنم.

أما الخطوة التي ينبغي أن تواكب، حتماً، مشروع المساءلة، فهي خطة النهوض بالوطن الى التعافي من الانحطاط، والتأخر، فالمواجهة وحدها بلا خطة، لا تخلص، وتبقي مسيرة التغيير مبتورة، من هنا، ينبغي أن يكون هنالك رابط وثيق وأساسي بين المواجهة والنهوض. إن لبنان مصاب بأزمة تفوق الإدراك، وهو بحاجة الى النعمة السماوية، كما قال لي أحد المدمرين، واستناده الى الفوق حق، فالضوء الإلهي يقود الى مخرج للمعضلة، وينبغي الإنصات إليه، والتطبب به، لتأسيس حياة جديدة تسودها الحرية، والنظام، والعدالة، وعدم المس بالسيادة الوطنية والكرامة الإنسانية، مهما كانت الأسباب.

ولكنْ، فبالإضافة الى التوكل على إرادة الله، وهي أساس الإيمان، غير أن إرادة الإنسان تشغل عاملاً مرجعياً في خطة التطوير، للانتقال بالبلاد من حال التقهقر، الى ميدان قيم الحق والخير، بإلزام قواعد ما هو مقبول، وما هو غير مقبول. فهناك، في البداية، محاكمة لسلوكيات السلطويين النفعية، ولتواطؤ القيمين الذين فرض فسادهم حصاراً خانقاً احتقر الحق بالعيش الكريم، وعمق الهوة بين الناس وآمالهم، وثبت المظالم بانتهاكات فاضحة. وإزاء هذا المشهد، تنتاب البلد حيرة، وقلق، وسؤال عن الرجاء بالمستقبل، وكيف يكون هذا المستقبل؟

أما خطة التغيير التي تقتضي فهماً، واختباراً، وتعمقاً، ورؤيةً سديدة، وأمانة، فلا تنبت في أرض قاحلة مع أشباه كانوا عبيداً للشيطان، خاشعين لنزواتهم الفاسدة، ساجدين أمام مشغليهم بعمالة موصوفة، لا ينضح عنهم سوى الشر… ولا يمكن التسامح مع الشر. فالتغيير حدث، ونشيد فرح لأجل نصر لبنان، وبهجة الحياة فيه، وتحسين ظروف الناس الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، وهذه معادلة وطنية يتفق عليها جميع المخلصين، وتقدم مساهمةً في خدمة الوطن. من هنا، ليس غريباً أن يهمش الذين جعلوا من أنفسهم آلهةً وأسياداً لزمان البلاد والعباد، وهم بطال ملحدون، لا زالت آثار جرائمهم ماثلةً في أرض صيروها أطلالاً، وناس كوموهم في أكفان.

أما الوصول الى الإنقاذ، فبالإضافة الى نقد الذات التنويري، ومراجعة يقينية واعية لمراحل العلاقة مع الوطن، ينبغي أن تمنح الثقة للذين أرسوا دعامة الوطنية في ممارساتهم، والتزموا مفهومية الوفاء كأهم المقومات التي تربط المواطن بالهوية، وآمنوا بنهائية الكيان، وبمجتمع حر منفتح على حضارات الدنيا، وقدموا إجابات صائبةً صافيةً عن الشوائب والملونات، وجعلوا النقطة المركزية في طرحهم مصلحة لبنان. وهذا، وحده، الرجاء الذي يشكل التحول الحاسم الذي يفضي الى التدبير الخلاصي، ما يعني اختيار غير الموجود لإزالة الموجود.

وأما جلاء الشك في ما يتعلق ب ” منْ ” يتوسم فيهم هذا التوقع، فعندنا “آباء” مستقيمو الرأي، شرفاء السيرة، مزامنو الوطن، يعلمون ما تعلموا منه ليحتذى بهم، مجاهدون بتواصل وإنْ بمشقة وخطر، يقظون لهم اليد الطولى في التنبيه والتحذير، ما حادوا عن أسس المواطنة في شهاداتهم اليومية التي أعلنت رسالة لبنان الحقيقية النقية، حافظو أصالةً للأرض وأمانةً لمنْ عليها. هؤلاء ” الآباء ” هم نماذج عن محاربة الغربة الوطنية، ومواجهة ” الوثنيين ” الذين عبدوا أصنام الخارج، وهم الذين امتلكوا قيماً تؤكد على أن الولاء للوطن هو الرهان الوحيد الآمن.

أيها اللبنانيون، هؤلاء “الآباء” هم العهد الجديد الذي ينبغي أن تنهلوا منه، وبكل ثقة، فهو، وحده، الخير المرتبط بكم، وبلبنان.

خبر عاجل