مرّت سنة على غياب ميشال مكتّف، الرجل النشيط والخلوق، والعامل في الحقل السياسي بمعناها الشريف في الخدمة العامة، بنزاهة وقيم عالية.
ما أكتبه عن هذا الرجل هو من خلال متابعتي وقُربي من بعض المقرّبين والأصدقاء الأوفياء لميشال مكتّف. هذا الرجل الخلوق والمتواضع والمندفع، والعامل الصادق والمتفاني والمحبّ، المفعم بالحياة والروح الحلوة. لقد جسّد نموذجاً رائعاً في التعاطي الأخلاقي النزيه في قلب مجتمع اختلط فيه ـ للأسف ـ “الصالح بالطالح”.
لا نكتب عن ميشال مكتّف من أجل المديح ولا من أجل الدفاع عنه، فتاريخه المشرّف وأصدقاؤه الكثر يشهدون على كل خيرٍ فيه؛ بل ما أكتبه هو من أجل إبراز وإظهار سُلوكاً أخلاقياً وسياسياً واجتماعياً ووطنياً وقيمياً مُغايراً تماماً للواقع الذي نعيشه سابقاً وحالياً، هذا الواقع السيّء للأسف.
لقد أرسى ميشال نهجاً مختلفاً في التعاطي الأخلاقي والإنساني والودّي، في ثقافة حوار ومنطق انفتاح، ضمن حدود الحقيقة والثوابت الوطنية الأساسية، محافظًا على نهج عريق من تاريخ لبنان، وموقعه المميّز ودوره في الحرية والديموقراطية والعيش الأهلي ـ الأخوي.
لم يكن ميشال طائفياً ولا منغلقاً ولا متعصّباً، بل أراد ـ بصدق ومعرفة ـ أن يجسّد مفاهيم العيش الوطني الواحد، من خلال رقيّ الإنسان والدفاع عن الوطن، والاحترام التام لسيادته واستقلاله والعيش الحُر والكريم.
أحبّ عائلته وأصدقائه ووطنه، وعرف التعامل مع الناس انطلاقاً من مبادئه الأخلاقية العالية وحرصه على نسج العلاقات الجيّدة في المجتمع اللبناني المتعدّد الخيوط والمشارب. من هنا، كانت أعماله وصداقاته ومشاريعه، تصبّ في هذا النحو، للحفاظ على ميزة لبنان الحضارية والتعدّدية المتنوّعة، ضمن الوحدة الوطنية الجامعة، والنابذة لكل خلاف ديني أو مذهبي، أو صراعات إقليمية ودوليّة تؤثّر على أوضاع “البلد الصغير”.
ونجد هنا، مبادرته الشجاعة، بتأسيس وإطلاق جريدة “نداء الوطن” في تموز 2019، المطبوعة ورقاً، في خضمّ أزمة اقتصادية خانقة وأوضاع سياسية سيّئة، وتدهور الأوضاع في ما بعد أكثر في لبنان. نعم، أراد ميشال مكتّف على الرغم من كل هذه الأوضاع الصعبة، أن يبقى لبنان ضمن هذا الخط التاريخي في حرية الرأي والتعبير والتراث العريق في الصحافة والإعلام اللبناني، في وقت كانت صحف أخرى تقفل وتنهار، افتتح هو جريدة جديدة! وفي وقت كانت الحرية في خطر ما، والإعلام تحت قبضة ما، أراد خلق هذه المساحة من الحرية والتعاطي المسؤول مع المستجدّات اللبنانية، ومواجهة كل ظلم، والتعبير عن الرأي والفكر، من خلال نخبة من المتخصّصين الجريئين.
ولا ننسى انخراطه في لقاء قرنة شهوان، والعمل السياسي الصعب والخطر على أمنه الشخصي، ككل القيادات والشخصيّات التي حاولت أن تعطي الرأي الوطني الحُر، والرأي المختلف عن ما هو سائد. نعم، لقد عرّض حياته لكثير من الأخطار من أجل المبادئ الوطنية والسيادية والثوابت التاريخية العريقة للبنان.
أمّا ما هو مُحزن ومُخزي، فهو ما مرّ به في المرحلة الأخيرة من حياته ومسيرته، السريعة والقصيرة، لكنّها الحافلة بالإنجازات والعمل الشريف والأخلاقي؛ إذ انبرت عليه قوى من داخل الوطن، تضطهده وتتّهمه بأشنع التهم، وهو بتاريخه الناصع منذ والده المرحوم جورج مكتّف، لا غبار عليهم في عملهم العريق والشريف الذي يزيد عن 70 سنة في لبنان في مجال أعمال الصيرفة والمال.
يُحزننا اليوم جداً أنّ ميشال مكتّف تركنا باكراً، وهو في زهو شبابه وعطائه وأحلامه واندفاعه، حيث كان لديه الكثير من العمل والأمنيات يسعى لتحقيقها، بين أهل وطنه، وأصدقائه وعلاقاته الكثيرة ومحبّيه الكثر. لكن ما يعزّينا اليوم هو هذه الأخلاقية العالية التي تركها لنا ميشال، هي تلك البسمة البريئة والقلب الطيب واللسان اللبق والشخصية المشرقة والقامة المتألّقة والتعاطي الشريف والصادق… حقاً كان ميشال مثالاً في الأخلاق وقدوة في القيم!
كم نحتاج اليوم الى أمثال ميشال، والى أن نتعلّم منه، الهدوء والرصانة والجدّية والمسؤوليّة والصدق والمحبة والعطاء والتواضع والنزاهة والوفاء والجرأة وعزّة النفس وتحدّي المستحيل والاندفاع للعمل الشريف والناجح، والتغلّب على الصعوبات!
لقد امتلأ مجتمعنا ـ للأسف ـ من أشباه الرجال والمعتوهين والمغرورين والجشعين والانتهازيين والطامعين والمنافقين والفاشلين، فعاثوا فساداً وخراباً ودماراً، وأبعدوا كل شريف وصادق وأصحاب القيم والأخلاق، ودمّروا البلد على رؤوس أصحابه، ولم يبقوا أي خير إلاّ وأفسدوه ودمّروه. فهل ينادينا الوطن، كما أراد دوماً ميشال مكتّف، لنلبّي النداء، فنعزّي قلبه الطيّب وهو من عليائه ينظر إلينا بشغف، علّنا نكمل مثله ما بدء، ونقوم بنشاط حثيث، من أجل العمل والخدمة، في حُب الوطن والإنسان، والعمل على خلاصه وتحريره.
mailto:[email protected]
(دراسات معمّقة في التاريخ من الجامعة اللبنانية، كاتب وباحث)