منذ قيام إسرائيل في العام 1948 ورجال الدين اليهود يعارضون النظام القضائي العلماني المدني فيما القوى القومية تنظر الى القضاة على انهم عقبة أمام طموحاتهم.
منذ عقد من الزمن عمل زعيم ومؤسس حزب (ماشيلوت) للحوكمة والديمقراطية الصهيوني الديني سيمشا روثمان على خطة لإضعاف النظام القضائي في إسرائيل وأصدر لهذا الغرض كتابين حول الموضوع.
روثمان وضع التعديلات على السلطة القضائية لبنيامين نتانياهو منذ ترؤسه لجنة القوانين في الكنيست الإسرائيلي. بنظره كما بنظر اليمين الإسرائيلي القومي المتطرف على علم أن هذه فرصتهم شبه الأخيرة لوضع موضوع الإصلاحات على نار حامية لإقرارها في ظل حكومة نتنياهو الحالية.
الأزمة الحالية في إسرائيل تبدو ظاهرياً خلافاً تشريعياً فيما الحقيقة أعمق من ذلك من دون أن يعني ذلك ما يذهب إليه بعض المغالين أنها ستؤدي الى زوال إسرائيل أو انهيار الدولة لكن مما لا شك فيه أن الأزمة الحالية خطيرة جداً وعميقة الجذور والمكونات والتشابكات داخل النظام الإسرائيلي.
ظاهرياً، الأزمة على خلاف تشريعي عنوانه محاولة الحد من السلطة القضائية ما لبث أن تحول إلى خلاف دستوري على قاعدة أن حكومة نتنياهو تريد عبر مجموعة من التشريعات التحكم بهيئة مكونة من 9 أشخاص التي تشكل المحكمة العليا في إسرائيل والتي تماثل المحكمة الدستورية أو كان لإسرائيل دستور.
فبموجب تشريعات حكومة نتنياهو اذا تم تمريرها ستصبح الحكومة هي المتحكمة بالقضاء عبر التحكم بالمحكمة العليا ما سيؤدي طبيعياً إلى غياب أي سلطة قادرة على إجهاض القوانين التالية التي يزمع نتنياهو وحكومته على تمريرها، بعضها يخدم أشخاصاً في الحكومة تبرئهم من تهم، وأهمهم نتنياهو فضلاً عن قوانين أخرى تشرع الاستيطان وتعيشي الحكومة حق تطبيق الإعدام على الفلسطينيين الذين يقومون بأي أعمال إرهابية كما يعتبرونها، خصوصاً أن القوانين تلك تعطي الجماعات الدينية المتطرفة مزيداً من الحقوق والتأثير.
هذا في الظاهر، أما في الواقع، فإن الأزمة الحالية تعكس خلافاً على طبيعة الدولة ووظيفتها: هل تكون دينية قومية أم تبقى ديمقراطية.
لذا من الصعب وليس المستحيل أن ينتصر نتنياهو وحكومته في هذه المعركة، خصوصاً أن انتصار هذا الخط سيقلق الغرب، القلق حالياً، أما في حال الفشل يتم عزله وإسقاط حكومته.
إسرائيل في حالة فوضى منذ نيف و3 سنوات نتيجة الخلاف الجذري هذا: فالصراع بين القوى الدينية والقومية المتطرفة وبين النخب ومنها الاشكناز التي لا تريد أن تتحكم تلك المجموعات بمقدرات البلاد وتغيير هويتها قائم ومستمر بحدة، أحياناً في العلن كما هو حاصل، فالدولة الدينية مرفوضة في المجتمع الدولي.
اليوم يحاول اليمين المتطرف الديني من خلال نتنياهو وحكومته دفع الأمور باتجاه مخالف لمنطق التاريخ ومنطق التطورات العالمية من خلال الإصرار على إقرار قوانين دينية متطرفة باعتبار أن الفرصة لن تتقدم ثانية لأصحاب هذا التوجه المتطرف. ومن هنا، ما قاله روثمان لصحيفة هآرتس الإسرائيلية باتهام الاشكناز اليهود (يهود أوروبا) بالسعي للحفاظ على امتيازاتهم العلمانية اليسارية في تل أبيب ورفضهم إنهاء ما سماه السلطة السياسية النخبوية الحامية لامتيازات هذا الجزء من شعب إسرائيل.
إذاً، نحن أمام مشهد إسرائيلي داخلي معقد وصعب يتجاوز للمرة الأولى منذ نشأة هذا الكيان الدولتي مجرد خلافات سياسية ليتعداه الى خلافات عقائدية دينية بالعمق لطالما قسمت الشعب الإسرائيلي بين السفرديم الشرقيين الأرثوذكسيين اليهود والاشكنازيين الغربيين الليبراليين. ويكفي الذكر في هذا السياق، أنه يوم قيام إسرائيل، قاطع رجال الدين حفل افتتاح المحكمة العليا رافضين النظام القضائي المدني، وتغيب آنذاك عن الاحتفالات كبيرو الطائفة اليهودية الشرقية، كما يذكر المؤرخ الكسندر كاي Alexander Kaye في مؤلفه الشهير The invention of Jewish theocracy يومها اعتبر الحاخام الكبير اسحق هرتزوغ جد الرئيس الإسرائيلي الحالي في المحكمة العليا خيانة للتقليد اليهودي .
فهذا الاختلاف لا بل الانقسام العمودي بين المفهومين الديني والعلماني تسبب في حرمان إسرائيل كدولة من دستورها لتجنب حرب أهلية بين اليهود حول طبيعة الدولة ومؤسساتها.
من يتعمق في التاريخ اليهودي يستنتج أن ما نشهده اليوم في إسرائيل من صراع هو إحياء لحرب الثقافات التي اندلعت منذ القسم الثاني من القرن الثامن عشر بين تيارين فكريين متناحرين: التيار الليبرالي الغربي العلماني في مقابل التيار المتشدد اليهودي الذي يضع وسطية الشعب القانون الديني.
من هنا، فإن حقيقة الصراع حالياً هو أن هذا الكيان الدولتي يشهد عودة مدوية لحرب الثقافات تلك، إذ تعتبر المحكمة العليا محورها الأساسي كونها رمز القيم الليبرالية في البلاد.
فهل تذهب إسرائيل الى حرب أهلية؟ ليس من السهل على الإسرائيليين من الاتجاهين الوصول بالأمور الى هذه المرحلة الخطرة من المواجهة لأن الكل يدرك ما يمكن أن تتكبده إسرائيل من خسائر وأضرار فادحة ليس اقلها سقوط نظامها وإضعافها تجاه جيرانها وفقدان هيبتها الإقليمية. لذلك، فإن الحرب الحالية شبه الأهلية لا بد أن تنتهي بمخرج قد يكون ثمنها إسقاط نتنياهو وحكومته في مقابل حكومة أكثر اعتدالاً إن لم تكن أكثر ليبرالية تعيد وصل ما انقطع من ثقة بين الإسرائيليين وتعيد الانسجام السياسي الداخلي والخارجي لا سيما أن المنطقة كما نظام العالم الحالي لا يقبل بنماذج دينية متطرفة بدء من داعش والقاعدة والميليشيات الإيرانية الشيعية والسنية، فكيف بالحري بدولة حليفة لأميركا والغرب مثل إسرائيل ومطبعة مع عدد من الدول العربية؟
منذ نكبة العام 1948 والمجتمع الإسرائيلي يعاني من العنصرية الحادة بين الأشكناز والسفارديم، فبينما كان الأشكناز أفضل تعليماً وأكثر ثراء وميلاً نحو الحداثة والعلمانية، كان يهود الشرق السفارديم ـ على العكس من ذلك ـ يعانون من نقص المهارات التعليمية والثقافية، فضلاً عن الفقر الشديد والجنوح الثقافي عن حداثة أوروبا وعلمانيتها.
واليوم وعلى خلفية صراع الثقافات يعود النزاع الداخلي الإسرائيلي الى بداياته مع فارق زمني وجيو سياسي وهو أن اليهود ما قبل نشوء الدولة غير يهود الدولة ومصالحهم مختلفة ومترابطة في آن واحد في ظل تحديات المنطقة والعالم وصراع الأمم الكبرى.
فهل يكون صراع الداخل الإسرائيلي اليوم في هذا الإطار، انعكاس طبيعي في مكان ما للصراع الدولي بين معسكر شرقي متدين ومتزمّت ومعسكر غربي ليبرالي مسيطر؟