مما لا شك فيه أن لبنان يمرّ بأصعب مرحلة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وغيرها من العناصر الوجودية الأساسية لاستدامة وطن وكيان. هذه المصاعب تحوّلت الى مراحل يأس يومي يمرّ بها المواطن اللبناني الى حدّ الكفر بلبنان وطناً وأرزة وتاريخاً.
البعض بدأ يشعر بالتعب والملل واليأس وباشر رحلة البحث عن الوطن البديل حيث الأمان والرخاء الاقتصادي، ودولة القانون، وحقوق الإنسان والسلام النفسي والأمني.
نعم، هذا هو المطلوب، وهذا ما دُبّر للبنانيين. المطلوب أن نفقد الإيمان بلبنان، والرجاء بقيامة وطن ناضلنا على مدى عصور لإنشائه واحة للحرية والتعددية والعيش الكريم، ونبدأ العيش كغرباء على أرض وتراب مجبولين بدم أجيال وأجيال من المقاومين. المطلوب أن نفقد الأمل بـ1400 عام من الشقاء المكلّل برايات المجد. سنوات مرت والمسيرة مستمرة، قوافل تنده لقوافل، وأجيال تكمل مسيرة أجيال، مُضيئة مشعل الصمود والبقاء، بحرية وبكرامة في جبال نحن اخترناها مرتعاً للقيم والمبادئ الإنسانية.
هذه الجبال اخترناها لنعيش بكرامة، ونمارس حريتنا ومبادئنا الثقافية والدينية في شرق مظلم وظالم، مبني على الأحادية والترهيب والترغيب. وُجدنا في شرق أُسّس على الإرهاب والترهيب الفكري، شرق امبراطوريات تتناحر وتتقاتل، دول الحزب الواحد والرأي الواحد، دول يعيش فيها الناس كائنات بيولوجية تأكل وتشرب، وهنالك من يفكر عنها ويقرّر عنها، فإن قرّر يُطاع، وإلاّ القهر والتعذيب والعنف والقتل.
هذه الجبال شكّلت وتشكّل ضمانة الوجود الحرّ البعيد كلّ البعد عن الذمية والتقية وغيرها من أشكال الحياة، بمرتبة مواطن درجة ثانية.
ويبقي السؤال، كيف تجذّرت الحرية في لبنان، أو مَنْ حوّل هذه الجبال الى مرتعاً للحرية، والحرية هي أساس وجود الإنسان ومتنفسه وسبيله لتحقيق ذاته؟
هم مجموعة قبلوا طوعاً وأسسوا عن قناعة، قضية الكيانية اللبنانية المبينة على الوجودية السياسية المرتكزة على الحرية، والحقوق والعدالة. من يراجع تاريخ أبناء هذه القضية المبني على التضحيات وبذل الذات، يرى أن صون هذه الأرض كلّف الكثير من الشهداء الأبطال، وكم المقاومين الذين تخلوا عن كل شيء ليقدموا لنا وطناً يختلف عن محيطه، وطناً يشبه طموحهم وتطلعاتنا وآمالنا. طريق الحرية صعبة وشاقة، خصوصاً في منطقة تلفظ هذا المنطق، وتشخص الحرية مرضاً يفتك في عقيدتهم الوجودية والسلطوية.
بعد 1400 عام… هل نهاجر، هل نترك، هل نتخلى عن مرتكز عقيدتنا الإيمانية المبني على رجاء القيامة، هل نخون دماء فوارس الجبال والدهور وقوافل المقاومين على مدى العصور؟
بعد 1400 عام… هل نغدو غرباء في وطننا كما في بلاد الانتشار؟
بعد 1400 عام… أصبح من الثابت أن لبنان ليس وطناً أو فندقاً نستمتع بمناظره الخلابة وبما يقدمه من خدمات. لبنان رسالة إنسانية، هو الحرية الوجودية… لبنان هو القضية كلّ القضية.
لا تدعوا أحداً يفقدنا الأمل بلبنان، ويدفعنا الى الهروب واللجوء متنكرين لتاريخنا وملاحم البطولات. فلبنان وطننا، والقضية قضيتنا، ولن نعيش فيه غرباء، خانعين، مذلولين. فمن اعتاد العيش بالمغاور وحوّل الجبال الى سهول وبلدات تعج بالحياة، لن يفقد الآمل، سيقاوم ويقاوم، ليندحروا هم وعقائدهم البالية… ويبقى لبنان…