في 13 نيسان من العام 1975 كنت من فتيان الحرب. أول مرة سمعت عنها كانت إثر حادثة بوسطة عين الرمانة. لم أدرك في ذلك الوقت أن العمليّة ستؤدي إلى صراع طويل، على الرغم من أن البعض كان يلمّح إلى ذلك. لكن تدريجياً بدأت أعي أن حرب لبنان لم تبدأ في العام 1975 بل قبل ذلك بكثير، يوم استباحت المنظمات الفلسطينية الدولة وأصبحت دولة ضمن الدولة، أو بالأحرى الدولة نفسها، وذلك بعد توقيع “اتفاق القاهرة” في 3 تشرين الثاني من العام 1969.
وجدت الدولة اللبنانية نفسها عاجزة عن ردع تجاوزات المنظمات الفلسطينية وإيقافها عند حدودها، وما أشبه اليوم بالأمس، لا سيما عندما نسمع مسؤولي “حزب الله” يتحدثون بإستكبار واضح ويتباهون بالسلاح، حارمين الدولة قرار الحرب والسلم. هذا الواقع يقلقني، بسبب التشابه بين المنطق الفلسطيني وأداء “حزب الله” المدفوع من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تسعى لتنفيذ مصالحها في كل بقاع الأرض!
لم يكن النظام السياسي اللبناني محترماً، وهذه الاستباحة أدت إلى نشوب الحرب في لبنان في العام 1975، وعندما نصرّ اليوم على بناء دولة لا سلاح فيها سوى سلاح الجيش اللبناني، نعي ما نقوله، لأن بناء دولة على شكل تلك الموجودة الآن، هو سبب أساسي في إعادة إنتاج الفتنة.
الكبار في ذلك الوقت كانوا يستمعون إلى الرئيس كميل شمعون الذي بدا أول من تنبّه الى الخطر، وحذّر الحكومة منه، ثم تلاه الشيخ بيار الجميل الذي طلب في تصريح صحافي من الدولة أن تضبط السلاح الفلسطيني وأن تعامل شباب المنظمات كما تعامل اللبنانيين. وكم أشبه اليوم بالأمس، فالدولة لا تزال كما هي تسمح لمن يقّوض الدولة بحمل الصواريخ، و”تدك” جماعة الصيادين بالسجن! للأسف، لم يتغيّر شيء سوى الأسماء، فقط السياديوّن اللبنانيون لا يزالوا هم هم. تغيّرت أسماء القيادات التاريخية، لكن صوت الرئيس شمعون والشيخ بيار لا يزال يمثّله رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع منبّهاً من الأخطاء نفسها التي ارتكبت في العام 1975!
في 13 نيسان من العام 1975، تبيّن أن بعض الزعماء كانوا يتسلّمون الأموال الطائلة من الخارج ليوزعوها على المسلحين والمقاتلين، وأصبح مرفأ صور باباً مفتوحاً أمام شحنات الأسلحة والذخيرة التي تُرسل الى شباب المنظمات الفلسطينية لإشعال نار الفتنة في لبنان والقضاء على ازدهاره واقتصاده. ولتنفيذ المشروع كاملاً أوفدت الحكومة الأميركية مندوبها دين براون إلى بيروت للإطلاع على ما يجري في لبنان، وقد اقترح أن يغادر المسيحيون لبنان إلى كندا حيث خصّصت لهم الحكومة الأميركية مساكن ومرتبات مالية هناك. “جنّ جنون” الزعماء المسيحيين، وقيل إن الرئيس شمعون رفض الاستماع للمندوب الأميركي عندما فاتحه بأمر ترحيل المسيحيين من لبنان، فيما صرخ الشيخ بيار بوجهه قائلًا، “قل لحكومتك إن لبنان لنا. سنموت شهداء في أرضه، ولن نصبح مهجرين مثل غيرنا”.
في ذلك الوقت، انتمينا إلى مجتمع “المقاومة اللبنانية”. كان بشير الجميّل ورفاقه العلامة الفارقة، وخطاباته الناريّة جعلتنا نشعر أننا مواطنون من الدرجة الأولى، وهذا ما نشعر به عندما نسمع “الحكيم” اليوم.
سرعان ما أصبح كل شيء واضحاً بالنسبة الينا على المستويين الفكري والعسكري، نحن جيل الحرب، بعد العام 1975، وقد أصبحنا على ثقة بأن القتال لم يكن مجرد إطلاق نار بين طرفين، بل كان في البداية لمقاومة من أراد لبنان وطناً بديلاً، وفي ما بعد لمن أراد إخضاع السياديين الأحرار. فهل يقرأ حملة السلاح وسالبي قرار الدولة اليوم العبر من ذكرى 13 نيسان أو يكررون أخطاء أسلافهم ويحرقون البلد؟