إن ننسى لا ننسى 13 نيسان وما بعده

حجم الخط

هذا المقال كتبته متصوّراً شارل مالك نفسه يعيد صياغة مقاله الذي كتبه في العام 1977 بعنوان “إن ننسى لا ننسى”. فيما لو عاين لبنان اليوم بعد 13 نيسان الذي عايشه في العام 1975.

إن ننسى لا ننسى، تلك السنوات السوداء التي قضاها اللبنانيّون بدءا بـ13 نيسان تحت احتلال فلسطيني، مرّ بعده الاحتلال الاسرائيلي، ليدخل لبنان الجمهوريّة الثانية تحت احتلال سوري دام لخمس عشرة سنة عجاف، سنوات العدوان ومع ذلك سنوات الآلام الجلجليّة هذه تكلّلت بقيامة لبنان الأولى في 14 آذار من العام 2005، فشعر اللبنانيّون في تلك المرحلة بعظمة سنوات المجد، بعد سنوات التخريب.

كما عايشوا بعد 13 نيسان سنوات البناء بعد الحرب التي أغلق ملفّها ولم يقفل عند بعض النّفوس الحاقدة. أولئك الذين امتهنوا نبش القبور بحجّة المقابر الجماعيّة. ولم يجرؤوا يوماً على المطالبة بنبش مقابر 13 تشرين التي تسبّبوا بها، واستجلبوا نتيجة حروبهم العبثيّة اتّفاق الطّائف الذي انقلبوا عليه لأنّه لم يأتِ بهم إلى الرئاسة. لكنّهم عادوا وصمتوا عنه بعدما وصلوا تحت كنفه إلى ما تبقى من رئاسة، بلا هيبة نتيجة استزلامهم وانبطاحهم تحت نعال المحتلّين السوريّين والايرانيّين بعدهم.

ومع ذلك سنوات الصمود والتحدي، سنوات الشرّ من الداخل وسنوات الشرّ من الخارج، ومع ذلك سنوات البطولة والغلبة. والمقاومة اللبنانيّة الحقيقيّة هي مجد لبنان. هذه كلّها اختبرها المقاومون اللبنانيّون الأصيلون والكِيانيّون الذين حرّروا الوطن بسلاح الكلمة والصوت، والصمود في معتقل ما بعد 13 نيسان لمدّة 4114 يوماً من الحريّة في زنزانة على مساحة القناعات الشخصيّة التي آمنوا بها، ورفضوا الحرّيّة المزيّفة، أو السجن الحقيقي في رحاب الوطن المحتلّ.

“إن ننسى أيها السادة لا ننسى، خيرة شبابنا وشاباتنا الذين إستشهدوا كي نبقى نحن، أن ننساهم هي الخطيئة المميتة، أن ننساهم يعني نسياننا لأعظم بطولةٍ قد تكون حصلت في تاريخ لبنان، والذي ينسى بطولةٍ كهذه البطولة، يستحقّ هو ذاته النسيان”.  للأسف هنالك من نسي هذه البطولات كلّها من 13 نيسان حتّى ما بعد 14 آذار. كلّنا إيمان أنّه سيستحقّ هو ذاته النسيان، وهذا ما أصبح قريباً بعدما بانت الحقيقة كشمس الإله تمّوز.

إن ننسى لا ننسى، القضية العظمى التي استشهدوا في سبيلها. ونحن ما نسيناها. بل ما زلنا حتّى الساعة نحمل هذه القضيّة، ونناضل من أجل أن يكون لبنان الغد على قدر الطموح الذي استشهدوا لأجله. فضلاً عن أنّ هاجسنا أن يكون لبنان الغد على قدر أحلام أبنائنا وأحفادنا كي لا يتحوّلوا إلى مشروع شتات جديد في أصقاع العالم الأربعة.

أؤكد لكم أنه، لاتوجد اليوم قضيةٌ في العالم أعظم وأقدس من قضية لبنان. هذا ما آمن به مفكّرونا، وفلاسفتنا. وهذا هو الإرث الذي أُؤْتُمِنَّا عليه. ولن نفرّط بهذه الأمانة متى حيينا.

إن ننسى لا ننسى، الألوف من أهلنا الذين قتلوا وشُوِّهوا وذُبحوا، لن ننسى ألوف المعوَّقين، لن ننسى مئات اليتامى، لن ننسى مئات الألوف الذين شُرِّدوا، لن ننسى مئات الألوف الآخرين الذين هُجِّروا من قراهم وبيوتهم، ونحن منهم. لن ننسى كيف انسلخنا عن تلك الحقول والروابي والجبال التي حضنت طفولتنا المكلومة في منطقة شرقيّ صيدا. لن ننسى أولئك الذين افترستهم الغربة ولا يزالون بعد هذه السنين كلّها يتحرقون إلى الرجوع، ولم يكن واحد منهم جميعاً معتدياً على أحد، بل كان هو المعتدى عليه.

مسكين يا لبنان، مسكين يا لبنان، يريدونك اليوم أن تبدِّل تاريخك الحيَّ الصارخ، بالصمت المذلّ والخضوع المهين والموت الانحلالي. يريدون أن يكتبوا تاريخ 13 نيسان في سجلات انتصاراتهم الوهميّة. لكنّنا لن نسمح لهم بذلك طالما فينا نبض واحد.

إن ننسى لا ننسى، الخمسة عشرة مجزرة وأكثر التي أنزلت بالشعب المسيحي في لبنان خلال هذين القرنين من الزمن.

إن ننسى يا إخوتي لن ننسى، أن الطريق إلى فلسطين أعلنت أنها تمر بصنين، وبكفيا وجونيه.

إن ننسى لن ننسى أنّ طريق تحرير القدس عادت لتمرّ بعد 13 نيسان من وسط بيروت وشويّا وخلدة وعين الرّمانة.

إن ننسى لا ننسى أن الألوف من المرتزقة الملونين بألوان البشر الخمسة، المستوردين من أطراف العالم الأربعة للإعتداء على بيوتنا وممتلكاتنا ومقدساتنا ونسائنا وأولادنا وأطفالنا، ولن ننسى تحت أي شعار كانوا يهجمون وأي صرخة حربٍ كانوا يصرخون.

إن ننسى لن ننسى، أولئك الذين يحملون لبنانيّتهم على الهويّة ويتمطّون مطيّة 13 نيسان ليهجموا على العزّل، إخوتهم بالوطن صارخين بمذهبيّتهم ومسقطين عنهم لبنانيّتهم بعد 13 نيسان.

إن ننسى لا ننسى أن المجتمع المسيحي في لبنان، مجتمع حرٌ أمينٌ بالمعنى الأصيل لهاتين الكلمتين…

إن ننسى لن ننسى أنّ هذا المجتمع اختار الحرّيّة على أيّ عيش مشترَك مزيّف وصنع وطناً صغيراً له حرّاً سيّدًا ومستقلاًّ، جعل منه قبلة الشرق والغرب ودرّتهما، حتّى صار مدعاة حسد اللبنانيين المسحوقين بمسرحيات التحرير.

إن ننسى لن ننسى أنّ شعباً مسيحياً حراً أميناً كشعب لبنان المسيحي لا يوجد مثيلاً له في آسيا وأفريقيا وهذا ما أثبتته تجارب تاريخ ما بعد 13 نيسان.

إن ننسى لا ننسى الأخطاء الجسيمة التي وقع فيها مسؤولونا ما بعد 13 نيسان.

هذه الأخطاء التي في مجموعها المتراكم أوصلتنا إلى الهوّة التي نتخبط فيها، وكلٌّ يبرّر نفسه، ويؤثِم غيره، وعبثاً أفتّش عن لبناني رفيع واحد يقول علناً؛ ألحقّ عليَّ mia maxima culpa.

إن ننسى لن ننسى يوضاسيّي ما بعد 13 نيسان الذين تفاخروا بالحكم على واحد فقط، وتآمروا عليه، وزجّوا به في معتقل سياسيٍّ، وحمّلوه أوزار 13 نيسان كلّها.

إن ننسى يا سادة لن ننسى أنّ سمير جعجع وحده دُفِّعَ ثمن 13 نيسان.

نسامح ولكن لا ننسى ذلك الـ13 من نيسان، لأنّ صانعي التاريخ لا ينسون، كلّ ما ألمّ بهم يتذكرون ويحفظون، وفي تذكرهم وحفظهم هذين لا يقبعون، بل العبر من هذا كلّه يستخلصون، وبوحي هذه العبر المصفات الماثلة دوماً أمامهم يصنعون التاريخ. وإنّنا حتماً تاريخنا سنصنع.

إن ننسى لن ننسى أولئك الذين قتلوا بدم بارد بعد 13 نيسان، رجالات لبنان الغد، ليُقبِعوا بشرّهم المتلّون بألوان الليمون كلها.

إن نحن نسينا ذلك كلّه يا سادة، فاللوم علينا وحدنا. فالتّاريخ يبقى حيّاً طالما نحن أبقيناه على قيد الحياة.  والموت المستشهِد أمام عظمة تاريخ هؤلاء كلّهم، يبرِّر بقاءنا اليوم أحراراً بعد 13 نيسان.

هؤلاء الذين استُشهِدوا في 13 نيسان وما بعده وحدهم البقاء الحيّ الفاعل يستحقّون.

لذلك كلّه سامحنا ولن ننسى 13 نيسان وما بعده.​

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل