21 نيسان 1994… لهذه الأسباب اعتقلوا سمير جعجع

حجم الخط

كتب أنطوان نجم في “المسيرة” – العدد 1739

كان من الغريب أن تكون السيطرة السوريّة على لبنان بالقدر والحجم والقوّة التي نعرفها وأن يبقى سمير جعجع حرًّا، طليقًا، يمارس العمل السياسيّ، ويسعى إلى تحقيق أهدافه.

لقد يئس السوريّون منه، ومن إمكان استجلابه إلى خطّهم وصفّهم، بعدما اعتقد بعضهم ذلك عندما قرّرت القوّات اللبنانيّة الحضور إلى القرداحة للقيام بواجب التعزية بباسل الأسد.

وفي الوقت نفسه، بدأ تقلّص الهامش الزمنيّ الآيل إلى قيام صلح عام في المنطقة (1)، وإلى ضرورة استكمال بعض الإجراءات في لبنان (2). وفي اقتناع المعنيّين أن بقاء سمير جعجع وقوّاته يشكّل عائقًا يحول دون السيطرة السوريّة النهائيّة على لبنان، علمًا بأن السوريّين على معرفة تامة بأن لا علاقة ألبتّة بين القوّات اللبنانيّة وإسرائيل (3)، وأن القوّات اللبنانية لا تحضّر أي تفجير أمنيّ، وأن قدرتها على هذا الصعيد مشلولة تمامًا تمامًا، فضلًا عن أن قرار سمير جعجع والقوّات اللبنانيّة هو خوض الحياة السياسيّة بالأساليب الديموقراطيّة المشروعة فحسب.

إنّ اعتقال سمير جعجع وحلّ القوّات اللبنانيّة واتّهام القوّاتيّين بجرائم قتل على النحو الذي اتّهموا به ومحاكمتهم على هذا الأساس تهدف إلى «تسويد» سجلّهم تجاه الشعب وإلى إخراجهم نهائيًّا من المعادلة السياسيّة الداخليّة، تمهيدًا للوصول إلى الغايات الآتية من دون أي ردّة فعل سلبيّة شعبيّة مسيحيّة:

1 – إسكات الصوت المسيحيّ الأخير المؤثّر والفاعل والمناهض للسيطرة السوريّة على لبنان.

2 – تأمين الصمت على موضوع موافقة إسرائيل على سيطرة سوريا على لبنان كثمن من أثمان الصلح بينهما.

3 – تمرير الاتفاق على اقتسام مياه العاصي على النحو الذي جرى.

4 – تعديل قانون الانتخابات النيابيّة وفقًا للاستراتيجيّة السوريّة.

5 – إجراء هذه الانتخابات وتمرير نتائجها من دون أن يعطّلها أحد أو يطعن فيها.

6 – إسدال الستار في الوقت الحاضر على المطالبة الملحّة بإجراء الانتخابات البلديّة.

7 – إيقاف المطالبة بتطبيق اتّفاق الطائف نصًّا وروحًا.

8 – الإبقاء على الحكم على نحو غير متوازن سياسيًّا ووطنيًّا.

9 – المجيء برئيس جمهوريّة يكمل أسلوب السلطة القائمة ويضفي الشرعيّة على كلّ ما يحصل.

وسبَق إعتقال سمير جعجع ورفاقه الجوّ السياسيّ الآتي:

1 – مرّ على حلّ الميلشيات ثلاث سنوات من دون أن يبدو في الأفق أن القوّات اللبنانيّة ستضمحلّ وتنهار وتغيب، بالتالي، عن الساحة السياسيّة. وقد قال إيلي حبيقة لسمير جعجع يوم الْتقيا عند (رفيق) الحريري: «اعتقدنا أن بعد سنة واحدة من حلّ الميليشيات ستفرط القوّات وستذهب أنتَ إلى ولاية من ولايات أميركا حيث تؤسّس مطعمًا. ونحن نعجب كيف أن القوّات لا تزال موجودة.»

2 – لعب سمير جعجع في العام 1992 دورًا حاسمًا في مقاطعة الانتخابات النيابيّة بهدف أن يجعل نتائجها مطعونًا (2) بها عمليًّا وسياسيًّا، وإن كانت قانونيّة من ناحية الشكل. ولا يمكن لمن نظّم هذه الانتخابات أن يغفر لسمير جعجع هذا النجاح.

3 – رفض سمير جعجع مرّتَين القبول بالمنصب الوزاريّ. والذين أرادوه وزيرًا رموا إلى الإفادة من وجوده داخل السلطة من دون أن يتركوا له أيّ إمكان لتعطيل أي لعبة يريدونها. كان من المفترض، مثلًا، أن يكون في الوزارة عند توقيع معاهدة الأخوّة، وعند إقرار قانون الانتخابات… أيْ أرادوه شاهد زور فحسب (5).

4 – القيادات العلمانيّة المسيحيّة التي بقيَتْ في البلاد قدّمت خضوعها التام للسوريّين. وبقيَ سمير جعجع وحده خارج هذه الجماعة. وهذا أمر لا يروق لهم. فهو بذلك يشكّل بؤرة قد تستقطب آخرين في حال اهتزّت موازين القوى في المنطقة. وهم لا يريدون قيام بشير جميّل آخر. فقد استهتروا ببشير في العام 1978. فدفعوا الثمن غاليًا إذ جاء بشير رئيسًا للبلاد في العام 1982. وقد كان ذلك درسًا مهمًّا لهم فأفادوا منه.

5 – قام في داخل الجيش توافق بين المعنيّين التاليّين:

+ الذين لم «يهضموا» فشل جيش منظّم في مواجهته ميليشيا (حرب الإلغاء).

+ الذين عماهم الحقد العونيّ.

+ الذين سيطروا على الجيش اللبنانيّ من الداخل وجعلوه إداة قمعيّة في خدمتهم. وكان من مصلحة الأفرقاء الثلاثة التخلّص من القوّات اللبنانيّة بسبب ما ترمز إليه وما تشكّله مستقبلًا من قوّة سياسيّة، والتخلّص من سمير جعجع شخصيًّا لما رأوا فيه من شخص غير قابل للرشوة، على أنواعها، صاحب قضيّة، عنيد في إيمانه، مثابر في نضاله.

6 – قبل نهاية حرب الإلغاء، كان سمير جعجع يفكّر جدّيًّا بالمبادرة إلى حلّ القوّات اللبنانيّة العسكريّة فور انتهاء الحرب وتكوين حركة سياسيّة بديلًا منها. وكان:

* دائمًا مكرهًا على استعمال السلاح دفاعًا عن إيمانه الوطنيّ.

* مستعجلًا قيام «الدولة» لتعود الحياة إلى طبيعتها.

* «تعبًا» من المسؤوليّات الجسام التي أثقلت كاهله والتي سبّبتها ضرورة وجود القوّات اللبنانيّة قوّة عسكريّة. وفي هذا الإطار صرّح لي مرارًا عديدة ولكثير من معاونيه بأنّ حلّ الميليشيات على النحو الذي جاء في وثيقة الوفاق الوطنّي هو «نعمة». وقد ظهر ذلك بوضوح في رسالته الشهيرة تاريخ 30 نيسان 1991 (6).

* مقتنعًا كلّ الاقتناع بأن العمل السياسيّ قادر على تحقيق الأهداف الوطنيّة والسياسيّة التي ينشدها.

* عارفًا بما لا يرقى إليه شكّ أن موازين القوى في المنطقة لن تسمح بعد الآن بأيّ حرب عسكريّة داخل لبنان.

7 – إنّ الظروف والأجواء العامّة ومواقف العماد عون وأقواله شوّهت عند الناس حقيقة سمير جعجع ومواقفه واقتناعاته.

إنّ سمير جعجع:

+ لا يؤمن بالتصفيات الجسديّة ولا بالتهجير ولا بخلق مشكلة لاجئين.

+ لا يؤمن بتقوقع لبنان، بل بانفتاحه على الجميع شرط الحفاظ على السيادة والإستقلال.

+ يؤمن بقوّة ومن دون تحفّظ أو تردّد بضرورة أن تقوم علائق طبيعيّة مع سوريا وبحتميّتها. وكان مدركًا على نحو دائم أن مثل هذه العلائق شرط أساسيّ وأوّلي لاستقرار لبنان. إنّما الخلاف مع سوريا كان – ولا يزال – أنّها تنظر إلى لبنان على أنّه جزء منها يجب إعادته إليها، مع كلّ ما يستتبع ذلك من إستراتيجيّات على الأصعدة على اختلافها. كما كان ينشد تعاونًا مع السوريين قائمًا على مفهومه هو للتعاون لا على مفهومهم هم. ولطالما أصرّ في لقاءات خاصّة وعامّة على ضرورة الإبتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يُفسَّر عداء للعرب.

9 – كان سمير جعجع واعيًا تمام الوعي أنّه ممنوع – هو والقوّات اللبنانيّة – من العمل السياسيّ الفعليّ ما دام لم يقدّم خضوعًا غير مشروط للسوريّين. وقد ردّد أكثر من مرّة أن المطلوب منه أن يكون إيلي حبيقة آخر. وهذا أمر مستحيل. وقد عرض أكثر من مرّة، أيضًا، أن يستقيل من قيادة القوّات اللبنانيّة إذا كنّا نرى في سياسته هذه أذيّة بحقّ القوّات. وكان ينبّه المنادين بتكثيف النشاط القوّاتيّ السياسيّ – وكنتُ (7) في طليعة هؤلاء – بأن ذلك سيدفع بالسلطة إلى شدّ الخناق على القوّات وإلى ضربها إذا لزم الأمر. وفي الواقع بعثتْ السلطة ومَن وراءها برسائل عديدة إلى الحكيم. منها قتل قوّاتيّين (8) في بيروت وكسروان، واحتلال الجيش مباني مجلس القيادة في الكرنتينا في وقت كانت المفاوضات بين سمير جعجع والسلطة ما زالت جارية بهذا الخصوص، وطرد الـ «L.B.C.» من المبنى الذي كانت تشغله في جونيه، وإلقاء القبض من حين إلى آخر على قوّاتيّين وتعذيبهم وتحميلهم رسائل تهديد ووعيد شفويّة. وكان تفجير بيت الكتائب في الصيفيّ سبيلًا لضرب القوّات اللبنانيّة وإلغائها. وما لم يؤدِّ إليه هذا التفجير، حقّقه تفجير كنيسة سيّدة النجاة في الزوق في 20/12/1993. فتمّ اعتقال سمير جعجع في 21 نيسان 1994.

• 28 نيسان 1995

 

هامش

1 – سرت إشاعة قويّة في العام 1995 مفادها أن الصلح بين سوريا وإسرائيل صار قريبًا. وقيل أن التمديد للرئيس الياس الهراوي كان «منحة» من الرئيس الأسد تتيح للرئيسِ اللبنانيّ، الممدّد له، أن يشارك الرئيسَ السوريّ في التوقيع على معاهدة الصلح. وممّا يصبّ في خانة هذه الفرضيّة ما ورد في النصّ الآتي من مذكّرات الرئيس الهراوي: «قال الرئيس الأسد (للرئيس الهراوي في أحد أيّام أسبوع الآلام من عام 1995 في دمشق): إنّ الظرف الذي تمرّ به المنطقة يتطلب عدم المجازفة بتغييرات على صعيد القيادات لأننا بحاجة إلى إستمراريّة على الصعيد السياسي بعدما فتحت مفاوضات مدريد الباب أمام سلام محتمل. وأضاف إنّ التعاون والثقة المتبادلة القائمة بيننا يسهّلان علينا مواجهة المرحلة المقبلة بصلابة وتفاؤل، لذلك أقترح عليك أن تمدِّد ولايتك. قلت: فليكن لثلاث سنوات فأجاب: «لا مانع…» (الياس الهراوي، عودة الجمهورية من الدويلات إلى الدولة، دار النهار، الطبعة الثانية، بيروت، تموز 2002، ص402)

2 – المقصود بهذا الكلام الإستعدادات اللازمة لجعل لبنان في أوضاع معيّنة تحضيرًا لأن يسهل دمجه بسوريا بعد الصلح. ذلك أن أولى مفاعيل الصلح القريبة ونتائجه المباشرة هو انسحاب الجيش السوري من لبنان. فإذا لم تكن «الأرضيّة» مهيّأة لهذا الدمج قبل انسحاب الجيش السوريّ، فإن عقبات كثيرة ستحول دون هذا الدمج.

3 – في تلك الفترة.

4 – لم يكن سمير جعجع مقتنعًا بالمقاطعة. فقد بُحث هذا الموضوع في أحد الاجتماعات، وكنتُ مشاركًا فيه. كان رأي الحاضرين، في أكثريّتهم، مؤيّدًا للمقاطعة. فسلّم سمير جعجع بالأمر وإن من غير اقتناع. وقد تبيّن، في ما بعد، أنّه كان مصيبًا في موقفه. وفي الوقت نفسه، لم تسمح التوازنات المحليّة والإقليميّة والدوَليّة، وقتذاك، بالطّعن القانونيّ في الانتخابات.

5 – هذه الطريقة تتوسّلها الأنظمة الديكتاتوريّة، غالبًا، لذرّ الرماد في العيون، لأنّها في حاجة إلى «غطاءٍ ما»، أو «ساترٍ ما» يحجب ما يجري في واقع الحال من أحداث. وقد حصل أمر مشابه في تشيكوسلوفاكيا بعد الحرب العالميّة الثانية، عندما أشرك الشيوعيّون أحد المطارنة في حكومتهم وأبرزوه «ضمانةً» لطابع تشيكوسلوفاكيا الديموقراطيّ. ولكن المطران كان شاهد زور فحسب. إذ لم يكن وجوده في الحكومة قادرًا على منع «انقلاب براغ» في شباط 1948 الذي جعل من تشيكوسلوفاكيا دولة شيوعيّة.

6 – عنوان الرسالة: «أيها المقاومون»، وقد نشرتها «المسيرة» بتاريخ 6/5/1991 في صفحتَين. وممّا جاء فيها: «غدًا عند الفجر، فجر جديد يطلّ على لبنان. فجر السلام الآتي فهبوا لاستقباله، وحيّوه، وافرحوا بقدومه لأنكم أنتم الذين صنعتموه. فبوركتم وبوركت جهودكم… الآن، أيها المقاومون، جاءت فرصة تكاد تكون يتيمة في الزمن المنظور، تفسح لـ»دولة لبنانية ما» مجال القيامة واستلام مقدرات المجتمع ومسؤولياته… حقّ لكم أن تستريحوا كمقاتلين. ولكن كمناضلين مقاومين ملتزمين، فإن دوركم الرائد لم ينته بعد… إنكم تعملون من أجل لبنان جديد، بدولة جديدة، بصيغة مؤاتية، صيغة يحيا في ظلّها اللبنانيون أفرادًا وجماعات، حرياتهم غير منقوصة…»

7 – للدقّة والتاريخ، أوضح، هنا، أنني كنتُ مع تكثيف النشاط القواتيّ من حيث المواقف والإعلام والمشاركة في الحياة السياسيّة العلنيّة، أيْ الحضور السياسيّ على أنواعه، من دون أن يقوم الحزب بـ»إعادة» تنظيم القواعد الحزبيّة و»تعبئتها». إنّ إعادة التنظيم والتعبئة أخافت سلطة الاحتلال، فكانت من الحجج التي تذرّعت بها لتطلب إلى السلطة اللبنانيّة اتخاذ قرار إلغاء القوّات اللبنانيّة وسجن قائدها.

8 – نديم عبد النور، سليمان عقيقي، سامي ابوجوده، إيلي ضو.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل