في ذكرى 21 نيسان 1994 كتب عضو “الجبهة السياديّة من أجل لبنان” الدكتور شربل عازار بعنوان “شهادة للتاريخ”.
تعرفتُ على الدكتور سمير جعجع عن كثب في صفوف حزب الكتائب اللبنانيّة بعد العام 1986 تاريخ عودتي الى لبنان بعد إنهائي دراسة الطبّ في بلجيكا وفرنسا. توطدت علاقتي به مع الأيام ما جعلني أتردد عليه بشكل متكرّر حتى 21 نيسان 1994 تاريخ دخوله المعتقل.
حصل تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل صباح الأحد 27 شباط 1994، وهي الكنيسة التي كنت أواظِب وزوجتي على المشاركة في القداس فيها لقربها من منزلنا.
شاءت العناية الإلهيّة ذاك الأحد المشؤوم أن أشارك أبناء بلدتي عرمون كسروان قداس الأحد بسبب إلحاح المرحوم والدي لتمضية يوم الأحد بضيافته. حصل الانفجار الذي أودى بحياة الأطفال والنساء والشيوخ الذين حضروا للتضرّع الى ربّهم، وبسحر ساحر انصبّت كلّ الاتهامات بتفجير الكنيسة على القوات اللبنانيّة وقائدها.
ساد الرعب وأكفهرّت الأجواء وفُرض ما يشبه الطوق الأمني على غدراس مقرّ إقامة “الحكيم”، وكَثُرت محاولات المسؤولين وبعض السفراء والنواب والوزراء والشخصيّات السياسيّة لإقناع الدكتور جعجع بضرورة مغادرة لبنان لأن النيّة فعليّة وجدّية وواضحة بتوقيفه واعتقاله.
وقد حضرتُ شخصيّاً بعض هذه اللقاءات. وما زلت أذكر يوم اتّصل بي المرحوم النائب الشيخ رْشَيد الخازن يطلب منّي ملاقاته فوراً في منزله. ولمّا وصلت إليه قال لي إصعد معي في السيّارة لأنني أريد أن أقول كلمتين لهذا “المجنون” صاحبك، (يقصد دكتور جعجع) لأنّه إذا لم يفهم ويغادر لبنان سيُدخِلونه السجن.
وهكذا حصل، ورافقت الشيخ رشيد الى غدراس، وقد استعمل كل ما أتاه الله من مواهب وذكاء وحنكة لإقناع “الحكيم” بضرورة مغادرة البلاد مع كلّ الضمانات اللازمة لخروجه سالماً من لبنان. لكن محاولته، كما محاولات غيره، باءت بالفشل.
وعلى الرغم من الطوق الأمني المضروب على المَقرّ، كنت أصعد بشكل يوميّ الى غدراس للتضامن والاطلاع على المستجدّات. وصلتُ في أحد الأيام، سألت عن الدكتور جعجع، فأدخلني مرافقه الى المكتب حيث كان “الحكيم” يجلس على كنبة جلد سوداء، يدخّن سيكاراً ويحيط به جَمْعٌ من القواتيّين سأذكر واحداً منهم فقط منعاً للسهو والنسيان، إنّه الصديق الرائع المرحوم الشيخ فريد حبيب (النائب عن قضاء الكورة فيما بعد).
جلست على كنبة بالقرب من الدكتور جعجع.
أكملَ الحضور الحديث وكان يتمحور حول ضرورة أن يغادر “الحكيم” لبنان على وجه السرعة حفاظاً على حياته فهي عند أحبّائه أغلى من كلّ شيء. والجميع كان يردّد كرمالنا يا حكيم غادر لبنان، وهكذا دواليك. انا كنت صامتاً مستمعاً الى أنْ طَلَبَ منّي الشيخ فريد حبيب بإصرار، تفضّل يا دكتور عازار شو رايك؟ قلْ شيئاً.
تحركت في مقعدي، وبكلّ ثقة أخذت دور المُرشد والناصِح وابتدأت من عند شارل ديغول وكيف حَرّر فرنسا من بريطانيا ولندن، وكيف أنّه لو بقي في باريس لما استطاع الى ذلك سبيلا. وأكملت متوجهاً بكلامي للدكتور جعجع، وأنت يا “حكيم” في الخارج سوف تجول على عواصم القرار بين اميركا وأوروبا محاطاً بلوبي الإنتشار اللبناني للطلب من الدول المؤثّرة في الأمم المتّحدة ومجلس الأمن العمل على خلاص لبنان….والى ما هنالك من نظريات وأطروحات وفلسفات خطرت ببالي.
طرب الحضور لكلامي حتى أنّ البعض صفَّقَ بعفوية، ومنهم من اعتقد أنّ الحكيم قد يكون اقتنع او تأثّر بوجهة نظري، خاصةً وأنّه عند انتهاء مداخلتي (الفظيعة) قام الدكتور جعجع من مقعده وخرج من المكتب وأكمل الجميع بالثناء على موقفي وأسلوبي.
ما هي إلّا لحظات ويطلّ من باب المكتب مرافق الحكيم ويؤشر لي أنّه يريد أن يُكلّمني. أشرتُ بحركة باليَد للتأكّد إذا ما كنت انا المقصود، فأشار بإيمائة جديدة أنْ نَعَم. قمت عن مقعدي وعند وصولي إليه همس في أذني أنّ “الحكيم” ينتظرني في الغرفة الصغيرة المقابلة.
تعجبت شديد العجب واعتقدت واهما” أنّ طرحي قد يكون فَعَلَ فِعْلَه. مَشَيْتُ مزهواً إليه، طرقت باب الغرفة بهدوء إحتراماً ففتح الدكتور جعجع الباب من الخلف، وما أنْ دخلت حتى طبشه بقوة لافتة.
وقف أمامي بقامته الطويلة وحدّق بي من فوق، وبغضبٍ إستثنائي قال لي: “مبسوط بحالك عم بٍتْنَظّر وهنّي بزقفولك مفكّر حالك افلاطون ومفكّرني مش عارف شو عم بعمل وإنّو ما درست كلّ هذه الخيارات”.
وأكمل، “أريد ان أسالك سؤالاً واحداً وهات الجواب: إذا انا هربت وغادرت لبنان هل تستطيع أن تُقنع غريتا (زوجتي) أنّ سمير جعجع لم يفجّر الكنيسة؟
وتابع غاضباً، “أنت تريد ان تُنهيني وتُنهي القوات؟ نحن نُفَجّر كنيسة؟ انا أفجّر كنيسة؟ أصلاً صوت الحكيم كان يهزّ مسمعي وضميري ولا زلت حتى الساعة أحاول أنْ استرجع حرفيّة ما قاله لي وبأيّ طريقة ولهجة وانفعال قد قاله، لأنّه وَقَعَ عليّي وَقْع الصاعقة”.
وأردف بإصرار وبثقة ثابتة قائلاً، “انا سأسلّم نفسي وسأذهب معهم الى المعتقل، سوف أحاول أن أصِل على قيد الحياة الى وزارة الدفاع. صلّي لي أن أصِل طيّب (حَيّ). إذا وصلت على الوزارة عايش بِكونْ تمام، والباقي تفاصيل وقصة وقت، ومتل ما الله بيريد لأنّهم يُدخلونني السجن بقرار سياسيّ، وسأخرج منه بقرار سياسيّ .”
وأنهى حديثه معي قائلاً، “الآن عُدْ الى المكتب، “دبّر راسك” ماذا ستقول للشباب، وحديثك السابق “بتقطشو” وتُنهيه وانا ذاهب الى المعتقل برضايي.”
عدت الى المكتب مُتلعثماً متظاهراً بالهدوء”.
تمالكت نفسي، وعلى طريقتي قلت للحضور بعد حين وأمام الدكتور جعجع، “بكلّ الاحوال يا شباب نحن نَثِق بحكمة الحكيم وهو الأدرى بكلّ الأمور، وما يعرفه هو نحن لا نعرفه وهو صاحب القرار. لست منتسباً الى حزب القوات اللبنانيّة ولقاءاتي بالدكتور جعجع الآن هي من ضمن اجتماعات “الجبهة السياديّة” به، لكنّني وجدت أنّ عليّي الشهادة للحقّ وللحقيقة ولو بعد تسعة وعشرين سنة على الواقعة”.
وعليه، فإنني أجزم أن الدكتور سمير جعجع ذهب الى المعتقل بكامل إرادته ودراسته وتصميمه ليواجه باللحم الحيّ، فهو لم يَخَفْ ولم يهرب وأفتدى وطنه وقضيّته ورجاله بشخصه. وبعد اثنتي عشرة سنة من الإعتقال كان له ما أراد، وتبيّن أنّه كان على حقّ وخرج بقرار سياسيّ لتعود القوات اللبنانيّة بقيادة الدكتور سمير جعجع الى موقع الطليعة والى “حيث لا يجرؤ الآخرون”.