أجمل مشهدين عشناهما: ثورة الارز في 14 آذار، وجلاء جيش الاحتلال السوري عن لبنان في 26 نيسان من العام 2005.
لن، ولن أنسى ذاك التاريخ، وكنت كما كثر من الرفاق واللبنانيين الثوار الحقيقيين، الذين عايشوا تلك اللحظات الخالدة العظيمة في تاريخ لبنان.
كم هو جميل أننا كنا يوماً ما جزءا لا يتجزأ من تاريخ نضال لبنان، ولعلّنا أحد أجمل أجزائه في زمن جيلنا أكيد، جيلنا المسكين المضرّج بكل التجارب المرّة والحروب والاحتلالات والمقاومة أيضاً.
“قولكن رح نعيش حتى نشوف السوري فالل من هون؟”، كنا نسأل بعضنا البعض بحسرة وقهر. كنا بعز عز الصبا ونشعر أننا عجزة عندما نراهم. كنا نحب الحياة الوردية والانفلات في الفرح، في أرض هي أجمل تراب في الدنيا، هي الحياة كلها، ولكن كنا نشعر أننا هرمنا في التجارب ونحن نواجه أسوأ الاحتلالات على الاطلاق. لبنان الأخضر صار لونه رمادياً باهتاً من دون ربيع ولا صيف ولا شتاء، باهت من دون فصول، تحكمه الهمجية، ولما انسحبوا جرجروا خلفهم ألوانهم الميتة. رحل الرمادي وعاد ربيع الألوان الى السهل والجبل والضيعة والمدينة، وعادت الرياح تلعب بنا حرية، وأزهرت الحياة من جديد، وإن كان لفترة محدودة.
26 نيسان 2005، أقفلت طرقات لبنان بوجه عسكر بشار الأسد المحتل، رحلوا ولم ترتفع يد لتلوِّح لهم بالوداع، لا مراسم وداع ولا تكريم لمحتل حاقد، لكن لحظة رحيلهم أدمعت عيون كثيرة في فرحها. ثمة عيون أدمعت بالعز حين رأت آخر خيالاتهم وهي تغيب مكسورة مهزومة في المسافات. عيون فقدت بوجودهم وطناً بكامله، ولما رحلوا عادت وتصالحت مع دمعها وألمها وعانقت تراب الشهداء والمناضلين.
26 نيسان 2005، أجمل لحظة تاريخية لكرامة لبنان، دُفع ثمنها سنين وسنين طويلة من دماء شهداء ومعتقلين ومعوقين وأبطال ما زالوا في النضال أحياء، ووطن بأمه وأبيه وأولاده وبكل ما يملك من مقومات. دُمر استبيح قُتل نُهب واغتُصبت كرامته وتشلّع على يد أسوأ جيش نظام في العالم، أبشع نظام ديكتاتوري في التاريخ الحديث، أسوأ أسوأ العملاء على الاطلاق.
40 عاماً تحت نير المحتل السوري، زرع في أرضنا “فضيلة” حياكة المؤامرات، وغرز الجواسيس في كل الزوايا، واقتاد المناضلين الى فروع التحقيق وساقهم الى المزة، حيث لا يزال الكثير منهم هناك مخفياً لا احد يعلم مصيره.
40 عاماً من التنكيل المتواصل، وعملاء أكثر سفاهة، تواطأوا على أبناء بلدهم لينالوا فتات سلطة، وجعلوا من حياة المناضلين موتاً يومياً أحمر مصبوغ بالموت والقهر والاذلال.
40 عاماً وهم ينكَلون بلبنان، ولما أفلوا، رحلوا يجرجرهم ذل العالم كله، رحلوا مهزومين تحت ضربات المقاومة والكرامة التي طنطنت فينا رياحاً عاتية لا تقاوم في ذاك الـ 14 آذار المدوي حرية.
ذاك الصباح المشع بالحياة وقفت عند نقطة ضهر البيدر أراقب أفولهم، ترجّل لبنانيون كثر من سياراتهم ليراقبوا عودة الكرامة الى لبنان، أما هم فنظروا الى الناس بانكسار ما بعده انكسار، ووجوههم سوداء عابقة بالهزيمة، حاولوا رفع أصابعهم للإشارة الى النصر، فضحكنا ساخرين. اشاحوا بوجوههم عنا، ما كانوا يريدون أن يعيشوا ليروا ابتسامات الانتصار على من قتلنا وذبحنا واستباحنا وعذّبنا واعتقل شبابنا حتى اللحظة.
26 نيسان 2005، ذكرى جلاء جيش الاحتلال السوري عن أرض لبنان، هذا هو عيد الاستقلال الحقيقي الذي صاغه بطريرك الاستقلال مار نصرالله بطرس صفير، سواء اعترفت به هذه الدولة الذليلة المحتلة أم لم تعترف.
في 26 نيسان 2005 رحل العسكر المحتل من أبواب لبنان العريضة، لكن وبعد سنين قليلة، تضرجت أرض المحتل بدماء ثورة السوريين، فعادوا الينا بوجوه النازحين ولبنان تحت نير احتلال آخر، يستبيح كرامته ويعيد مشهدية الاحتلال السوري، إنما بأساليب أكثر دهاء وتدميراً. وها نحن نقاوم، وقريباً باذن الرب، سيكون لنا تاريخ استقلال جديد، وسنكتب “جلاء الاحتلال الايراني عن لبنان”، وسيصبح ذاك الاحتلال أيضاً بصيغة الماضي، وسيعود النازحون الى بلادهم… وسنودع الجميع من دون مراسم وداع وسنبقى في المقاومة.