الخصوصية اللبنانية ومأزق الإنتخابات الرئاسية!

حجم الخط

 

يمرّ لبنان في هذه المرحلة بأزمة سياسية تتمثّل في عدم الوصول إلى حلّ لانتخابات رئيس جديد للجمهوريّة. فلقد مضى حتى الآن نحو ستة أشهر على الموعد الدستوري لانتخاب الرئيس ولا تزال العراقيل قائمة، بل وتزداد، في وجه تحقيق هذا الواجب الوطني بفعل الشروط والشروط المضادة بين مختلف القوى السياسية. ويتركّز الصراع بين جهتين أساسيتين داخل المشهد السياسي اللبناني: أحدهما تمثّله القوى السيادية (القوات والكتائب والسياديون…) والثاني يمثّله الثنائي الشيعي («حزب الله» و»أمل» وملحقون…) فما هي الأسباب الكامنة وراء هذا الانسداد الانتخابي؟ وأي دور للخصوصية اللبنانية في الوصول إلى مثل هذا المأزق؟ وأية إمكانيات واحتمالات تقدّمها هذه الخصوصية للوصول إلى حلّ معقول وربّما غير مقبول من كافة الفئات السياسية في لبنان؟

 

أولاً: في الأسباب

 

صحيح أنّ الوضعية اللبنانية كانت تشهد صعوبات مرتبطة بالممارسة الديمقراطية وخاصة في انتخابات رئيس للبلاد. ومن الواضح والمنطقي أنّ هذه الصعوبات ازدادت وتعقّدت أكثر مع التحوّلات الايديولوجيّة والسياسية التي تشهدها مجتمعات الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة. وفي تقديرنا أنّ الأسباب الكامنة وراء المأزق الحالي تعود إلى جملة أمور نشير إلى بعضها:

 

1 – التوجّهات الجذريّة، ذلك أنّ المطروح حالياً ليس مجرّد موقف سياسي تتّخذه الفئات السياسية تجاه الوضعية اللبنانية وما تمثله من عمق على الصعيد الوطني والإقليمي، بل هو موقف جذريّ يتحدّد فيه مصير الجماعة. وبالتالي يصبح الخيار بين «أن نكون أو لا نكون» مسألة مصيرية، إن كل فريق يتمسّك بمنطلقاته الفكرية، بأيديولوجيته الدينية – السياسية والكيانية الوجودية وليس على استعداد للتخلي عنها. خاصة وأنّ التجربة التي مرّ، ويمرّ بها لبنان اليوم تعطي صورة واضحة عمّا أدّت إليه «فلسفة» المقاومة من كوارث ونكبات على مصير الشعب اللبناني. وهكذا فالذين ينطلقون في مشروعهم السياسي من منطلقات ايمانية لن يتخلوا عنها لأنّ فيها جزءاً من إيمانهم. وأما الذين ذاقوا مرارتها فليسوا على استعداد لإعادة تكرار التجربة مرّة ثانية للعيش في الذلّ والفقر والفساد على مختلف المستويات.

 

2 – المعادلة المزيّفة، ذلك أنّه في البرلمان اللبناني حالياً شبه معادلة بين القوّتين الأساسيتين بحيث يصعب وربما يستحيل على جهة منها فرض رأيها على الآخرين. لكن هذه المعادلة في ميزان القوى السياسية هي معادلة مزيّفة بفعل وضع السلاح تأييداً لإحداهما (الثنائي – الشيعي) وبالتالي يصبح الكلام على التكافؤ السياسي كلاماً منقوصاً وغير معبّر عن الواقع الاجتماعي اللبناني. وفي هذا نقض جوهري لقاعدة الخصوصية اللبنانية ودور الحياة المشتركة فيها على قاعدة قوة الديمقراطية وليس على أساس قوّة السلاح.

 

3- البؤس التمثيلي للقوى السياسية البرلمانية التي فرضت وجودها على ساحة التمثيل الشعبي وباسم القوى الحرة والمتحررة في حركة الشباب الجدد، ولدى وصولها إلى الندوة توقّفت عجلات عملها ونشاطها عن الدوران والفعل والتجدّد، وراحت تغرق في غياهب المواقف الفردية والفئوية. لقد بات واضحاً مقدار الفارق بين ما تقول به وتعمل له هذه الجماعة، وبين ما تمارسه على الصعيد العملي وهو ما يطرح علامات استفهام مؤسفة:

 

هل لدى النواب الجدد، كلهم، أو بعضهم، أو منهم، مشروع سياسي لمعالجة الوضع الراهن؟ هل يعتبرون مواقفهم الشخصية هي الآن أولى من المواقف الوطنيّة؟ ما هي الأولويات في خياراتهم الرئاسية بالنسبة للأشخاص وللمبادئ والمواقف والصفات المطلوبة لدى كل مرشح رئاسي؟ هل عمد النواب الجدد إلى وضع تصوّر حول الأولويات التي يرونها في سلّم القيم لدى المرشحين: النهضة – الإصلاحية – الرؤيوية – الثقافية – الإدارية – الأخلاقية…؟

 

أليس من حق هؤلاء النواب الجدد، بل من واجبهم، إيجاد الحل المناسب لإيصال شخصية لبنانية إلى سدّة الرئاسة. فإذا كان هذا الوضع لا يستدعي العمل الدائم والفاعل على القيام بمثل هذه المهمة، فكيف يكون الدور البنّاء لهذه «النخبة» المختارة من شبابنا المثقف والتقدّمي؟ ألا ترى هذه «الباقة» من شبابنا الجدد، أنّ الوقت مهمّ جداً للوصول إلى حلول في أقرب وقت ممكن. وإنّ كل تأخير هو تأكيد وتثبيت لنظرية الفراغ السياسي على حساب مشروع الامتلاء السياسي بالفكر والذكاء والعمل؟ وبالتالي ضاعوا وضيّعوا قبل أن يمشوا خطواتهم الأولى؟

 

ثانياً: الخصوصية اللبنانية بين المأزق والحلّ

 

1 – إذا كانت تركيبة لبنان الخاصة مدخلاً إلى الانسداد السياسي فإنّها في الوقت عينه مدخل إلى الانفتاح الحضاري، ذلك أنّ وجود لبنان التاريخي هو مسألة حضارية جدية وليس مجرّد ميتولوجيا شعريّة. فبعد ظهور الآثار خلال حفريات بيروت في التسعينيات من القرن الماضي فلقد وضعتها صحيفة (Le Monde) تحت عنوان عريض على صفحة كاملة: (Beyrouth plus grand chantier archéologique du Monde) كما وصفتها مجلة اركيولوجيا على غلافها: Beyrouth «Un trésor unique au Monde» لقد جاءت الجغرافيا لترسم ملامح التاريخ خارج العواطف ولتؤكد الحقيقة القائلة إنّ هيمنة جهة واحدة على لبنان، إذا كانت ممكنة بفضل سلاح قوى خارجية فإنّها مشروع تدمير للتوازن اللبناني الذي هو مفتاح التوازن الإقليمي وبالتالي مشروع أزمة دوليّة قد تتدخل فيها وتساعد عليها قوى إقليميّة ودوليّة.

 

2 – إن القوى الشبابية الواعدة مدعوّة للالتزام بالخصوصية اللبنانية وأكثر من ذلك جعلها الأساس لبناء مشروع نهضوي حقيقي منفتح على الوعي الديمقراطي، ولذا تشكل الخصوصية اللبنانية امتحاناً لنفسها وللفكر العربي المعاصر. فالهوية اللبنانية هي هوية ثقافية بفرعيها المسيحي والإسلامي. إنّها هوية ذات بعد إنساني وليس هوية مضادة. هوية بمقدار ما تؤكّد ذاتها تؤكد في الوقت عينه التزامها بخدمة انتمائها لمحيطها وللعالم.

 

3 – أجل إن الأحزاب والحركات والقيادات السياسية والعقائدية والشخصيات الفكرية، مدعوّة بعد مرور نحو قرن على نشوئها وما رافقها من انتصارات وانكسارات وسلام وحروب وأخطاء وخطايا، لا بدّ لها من إعادة النظر في مجمل تفكيرها وتصرّفاتها ومسارها وممارساتها ومنطلقاتها واستهدافاتها وذلك عبر نقد ذاتي صارم، يسمح لها إمّا بأن تتغيّر، والصحيح أن يتمّ تغييرها إذا وجدت نفسها أمام استحالة التجدد. فكيف الحال بالقوى التي بدأ الصدأ يأكلها ولم يمض عليها بعد عقد من الزمن؟

 

… أجل إنّ جميع القوى السياسية في لبنان موضوعة أمام الامتحان- التحدّي. على أنّ القوى الشابة، قوى التغيير هي الأكثر مسؤولية لأنّها هي وحدها القادرة على كسر التوازن بين الجانبين وتحقيق النجاح بقوة الديمقراطية. ولعلّه الامتحان الأهم الذي يواجهه النواب التغييريون ويؤكد مدى التزامهم بلبنان: لبنان الإنسان والدولة والكيان!

 

(*) باحث في الفكر الجيوسياسي​

المصدر:
نداء الوطن

خبر عاجل