تاريخ من تاريخ…
لأننا واجهنا ببسالة دفاعاً عن لبنان، ولأننا نصرّ على بناء الدولة وعلى ألا يتكرر الماضي، نسترجع من ذاكرة الزمن أحداثاً خبرناها، لتكون العبرة لمن اعتبر.
نعم، هي الذكرى للعبرة وليس استفزازاً، الذكرى للقاء عابر مع أبطال صنعوا مجد لبنان ويستحقون العودة إليهم عبر صفحات الوقت. الذكرى لتكريم من كانوا متراساً بأجسادهم ليموتوا هم، ويحيا لبنان.
مع انتهاء العام 1974، بدأت تظهر في سماء لبنان سحب سوداء تنذر بأحداث مأساوية، على الرغم من المحاولات التي كان يقوم بها الكثير من السياسيين المخلصين والمحبين لهذا البلد. أبرز خطوات التهدئة كان السعي لتشكيل حكومة سداسية تضم جميع الأفرقاء السياسيين على الساحة اللبنانية، إلاّ أن قوى الشرّ كانت تُفشل مراراً أي مساعي خيّرة.
بدأ الغليان الطائفي يتنقل بين جميع المناطق والبلدات والقرى اللبنانية، ولم تكن بلدة بيت ملّات العكارية بعيدة من تلك الأجواء.
كان السلاح في القرية قليل الوجود، إذ كان البعض وبالكاد، يملك بندقية صيد صغيرة. تجمّع الشباب وقسّموا أنفسهم إلى فرق صغيرة مهمّتها حراسة البلدة والأحياء من أي تدخلات خارجية، كما حماية المنازل من السرقة، لكن أحداً لم يكن يدرك ما يُحاك للبلدة، من خلال مجموعة من الفلسطينيين المتطرّفين بقيادة المدعو “أبو بكر” المدعوم ماديّاً وعسكرياً من الرائد السوري أيوب الحمصي. اتخذت هذه المجموعة مواقع عسكرية لها قبالة بيت ملّات، بانتظار اللحظة الحاسمة للتدخل العسكري.
أحسّ وجهاء القرى المحيطة بالخطر، فتجمعوا مشكلين وفداً للذهاب إلى بيت ملّات لتقديم العون والاطمئنان إلى الأهالي، وكان يتقدم الوفد شاباً من قرية عكار العتيقة. قبل وصول الوفد إلى مدخل البلدة، انطلقت رصاصة غادرة من يدٍ خائنة أصابت صدر الشاب الذي توفي على الفور.
الذين أطلقوا النار كانوا يريدون زرع الفتنة الطائفية، لكن القاتل عُرف بعد فترة، ليتبيّن أنه من المجنّدين السوريين. استغلّت قوى الشرّ والظلام هذه الحادثة، واقتحم عناصرها بيت ملّات مطلقين النار على كلّ من ظهر في طريقهم، فيما نزح الأهالي إما باتجاه سوريا وإما صوب بيروت الشرقية هرباً من الدخلاء المسلّحين.
قُتل في الهجوم الأسود 20 شخصاً. أُحرقت الكنيسة، وراح الغزاة يفجّرون قوارير الغاز داخل المنازل لإحراقها.
وهكذا… دفعت بيت ملّات ثمن التدخل السوري – الفلسطينيّ في لبنان، وهي من أوائل البلدات التي ذاقت مرارة الاعتداءات والقتل والتهجير، وكان شهداؤها الذخيرة الأولى التي قدّمها الوطن على مذبح الحرية والكرامة.
مهداة إلى شهداء بيت ملّات الأبطال