مجازر سيفو… نحن شهود على ذلك

حجم الخط

كتب المحامي ايلي شربشي في “المسيرة” – العدد 1740

الأرض لنا والشرق وطننا والحقيقة ملكنا

مجازر سيفو… نحن شهود على ذلك

صدر الأمر، فنفّذته القوات العثمانية مع بعض القبائل، مجازر منظمة، وعملية ممنهجة في القتل والتهجير والتدمير، لمدن وبلدات وقرى، استمرت أعواماً مستهدفة الشعب السرياني بكل مكوّناته وكان أشدها وحشيّة وبربرية تلك التي حصلت في العام 1915، فسميّ هذا العام بعام السيف أي “شاتو سيفو” وما بات متعارف على تسميته بمجازر “سيفو”.

جرائم مرعبة، استُعملت فيها كل وسائل الإرهاب والتعذيب اللا – إنسانية، فتارة كان يُجمع المؤمنون في الكنائس والأديرة وتُغلق الأبواب عليهم ويحرقون وهم أحياء، وطوراً يُجمع الرجال والأطفال ممن تخطوا الإثني عشر عاماً في الساحات ويعدمون إما رمياً بالرصاص وإما بحد السيف أمام عائلاتهم، وفي الكثير من الأحيان، كانوا يُساقون كالماشية أميالاً كثيرة ومن ثم ينحرونهم كما تُنحر الخراف وتُرمى جثثهم في الأنهر لتتلوّن مياه النهر بدمائهم فيعرف سكان القرى أن الدور أتٍ إليهم لا محال.

هذه حقيقة ما تعرض له شعبنا، آباؤنا وأجدادنا، على يد السلطنة العثمانية وولاتها في أرضنا أورفا وماردين وديار بكر وسعرت، طور عابدين وفي كل المدن والقرى فكانت إبادة جماعية تقشعر لها الأبدان، وتطهير عرقيّ على يد قوة غاشمة معتدية اسمها السلطنة العثمانية وعملاؤها، وإذا ما قرأنا تفاصيل ما حدث في ديار بكر مثلا من شهر  أيلول 1915، نتعرف أكثر إلى الهمجية والأفعال الجرمية التي تعرّض لها شعبنا…

ذات ليلة، جمعوا معظم هذه الأسر ثم رحّلوها وفتكوا بها. وكان هناك 400 طفل تراوح أعمارهم من سنة الى ثلاث سنوات، تمّ تجميعهم في المدرسة البروتستانية فاستحصل رشيد بك على قرار من المجلس الأعلى بقتلهم. وفي صبيحة أحد الأيام توقفت عربة أمام المدرسة وأخذت نصف عدد الأطفال وذهبت بهم الى فوق جسر نهر دجلة. فكانوا يمسكون بالأطفال من رؤوسهم أو من أقدامهم ويرمون بهم في النهر. أما النصف الآخر فقد اقتيد على طريق سويرك على بعد خمسين كيلومتراً من ديار بكر الى قرباغجيه وهناك قتلوهم إما فسخاً أو طعناً بالخناجر، وإما ببقر بطونهم أو بتقطيعهم إرباً، وغيرهم كان يُرمى بهم في الهواء ليسقطوا على رؤوس الحراب أو الأسلحة البيضاء أو يُلقى بهم للكلاب… من كتاب إيف ترنون “ماردين 1915” (ص 121-122).

صحيحٌ أنّ دوامة العنف والإجرام بحق مسيحيي الشرق قد لا تكون ابتدأت مع السلطنة العثمانية، لكنها كانت الأشد وحشية وهمجية وبربرية تجاه شعب بأكمله وأدت إلى إفراغ هذه الأرض من سكانها الأصليين، وهي مستمرة بصور وأشكال متعددة الى يومنا هذا من “القاعدة” وتنظيم “داعش” الى نظام الملالي في إيران، والتي إن اختلفت أوجهها ووسائلها، فكلها تسعى لهدف واحد ألا وهو إفراغ الشرق من مسيحييه وجعله بؤرة للتخلّف والتقوقع والانغلاق.

غير اننا، وكما يفيض النور في اليوم الثالث معلناً قيامة الربّ منتصراً على الموت، فنحن، أحفاد هؤلاء الشهداء، سنبقى حيث نحن، في هذه الأرض متجذرين، بتاريخ شعبنا مفتخرين، لما تعرضوا له من بربرية ووحشية وهمجية وقساوة مذكرين، شهودًا أحياء، بذاكرتنا الجماعية أحياء، بتاريخنا أحياء، بحاضرنا أحياء، ولمستقبل أولادنا وشعبنا في هذا الشرق مناضلين معلنين على الملأ أننا شهود على ما تعرّض له أباؤنا وأجدادنا، ولن نقبل بالإجحاف ولن نرضخ للغبن ولن نسمح بأن تبكي بعد اليوم أمّ أو زوجة أو إبنة مرارةً على فقدان أحباء لها… لكل هذا لن نستكين قبل اعتراف السلطات التركية بما ارتُكبَ بحق شعبنا تمهيداً لإجراء مصالحة تاريخية وإيّاهم، فتتصالح ذاكرتنا الجماعية مع ذاكرتهم الجماعية ونتقبل سوياً نحن وهم بأننا شركاء في هذه الأرض، متساوون وأحرار، وبأننا وهم مؤتمنون على مستقبل البشرية وأولادنا.

وليعلموا، بأننا لن نقبل بأقل من وثيقة اعتراف تؤكد ما حل بشعبنا وتعتذر عنه، لأن ما حصل كان بمثابة خطيئة بحق شعب عانى الظلم والظلام وسط صمت عالمي مشبوه مصبوغ بلون الخيانة العظمى لمبادئ الحق والحرية. فلكل شعب حق بأن يعيش سيدًا حرًا أبيًا على أرضه، متمتعًا بكافة الحقوق التي كرستها الأنظمة والقوانين الدولية، وليُحاسب من كانوا غير مبالين من سفارات ودول عظمى في حينه، إذ إن موجة الإجرام هذه التي لم يُحاسب عليها المجتمع الدولي في حينه، سمحت للمستبدّين والظالمين بأن يكرروا أفعالهم وإجرامهم في عالمنا اليوم، وأعطوا صك براءة للمنظمات الإرهابية لتستبيح الدول والعواصم والمدن والبلدات في الألفية الثالثة قتلاً وتهجيراً وتدميراً. لقد آن الأوان لأن يواجه العالم هذه الحقيقة ويعترف بها بدل التستر وراء أغصان الخجل والهرب من مواجهة مسؤوليته الإنسانية والغرق في خبايا المصالح الملعونة الغاصبة. فلا يمكن أن يقوم سلام على القهر يُميت أناسًا ليحيي آخرين ويذل أناسًا ليَكْبَر آخرون.

أما لمن لا يعترف بحضورنا المسيحي في هذا الشرق، فله نقول إنه يتنكر للتاريخ بذاته وليعلم بأننا لسنا أقليات دينية أو أهل ذمة أو طالبي حماية طارئين في هذا الشرق، نحن سكانه الأصليون ولدنا أحراراً، نعيش أحراراً ونموت في سبيل شهادتنا ومعتقداتنا وإيماننا أحراراً، لهذا قاومنا في لبنان يوم أرادوا اقتلاعنا وترحيلنا، قاتلنا واستشهد منّا من استشهد، فانتصرنا وبقيَ لبنان.

ولأجل هذه الحريّة والشهادة، صمد شعبنا بوجه «النصرة» و”داعش” في العراق، ولم نتركه فرحلوا هم وأعدنا بناء مدننا وقرانا وكنائسنا وأديرتنا في سهل نينوى معلنين تجذرنا في التاريخ والجغرافيا المشرقية.

فلا التهديد يخيفنا، ولا الذبح يرهبنا، ولا الاضطهاد يُثنينا عن الشهادة للحقيقة والتاريخ، لمحاسبة مرتكبي المجازر بحق شعبنا، ومعاقبة من كان شريكاً لهم، إما بالفعل وإما بالصمت والمشاهدة بذات الفعل، هذه الأرض أرضنا وهذا الشرق وطننا وهذه الحقيقة ملكنا وسنبقى شهودًا على ذلك.

ايلي شربشي ـ منسق بيروت في حزب القوات اللبنانية

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل