“هردبشت” حقائق عن واقع “ما بيسوى”

حجم الخط

كتبت جوزفين حبشي في “المسيرة” – العدد 1740

حسب المعجم، “هردبشت” كلمة تعني الإنسان الذي ينتمي لبيئة اجتماعية “منحطة” ويدل مظهره على الإهمال وعدم الاهتمام. ويُقال أيضًا إنها من أصل سرياني وتعني صاحب المظهر المهمل الذي لا سند له ولا جماعة تحميه.

أما حسب الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج وكاتب السيناريو محمد دايخ، “هردبشت” هو شريط صادم بواقعيته، مؤلم بحقيقته التي تشبه وثائقيًا وليس “فيكشن”، فج بمقاربته للحياة وقساوتها الشوارعية في الأحياء الشعبية الشيعية في أحد ضواحي بيروت.

“هردبشت” شريط يروي قصة يوميات وسلوكيات عائلة تعيش في أحد أحياء  ضواحي بيروت الفقيرة، والتطورات التي ستتفجر لترمي أفرادها في جحيم من فوضى ودم.

عائلة بكافة تفاصيلها الدقيقة من حيث الملبس والحوارات واللهجة والمناخ والديكورات، تتألف من “إم  حسين” (رندة كعدي)، “يدها والكف”، عيناها كالنار والبارود، لسانها رشاش شتائم من قساوة البيئة التي تربّت وربّت أولادها فيها، لتصبح هي وهم الضحية والجلاد في الوقت عينه. أم تعتمد مقولة “قوّصو وطلاع عالبيت” مع أبنائها الثلاثة حسين (حسين قاووق) وأبو الفضل (حسين دايخ) وحمودة (محمد عبدو). الأولان يحتميان بالقتل والمخدرات والزعرنة والتشبيح للبقاء على قيد “ما يشبه حياة” أُجبرا عليها، والثالث يلتجئ للدين هرباً من واقع “كافر”. وإلى جانب أفراد العائلة الصغيرة، تتحرك شخصيات أخرى مثل طلال تاجر الخردة والمخدرات (غابرييل يمّين)، والمعلم طانيوس الميكانيكي (فؤاد يمّين) وزوزو، معاون المعلّم طانيوس في الكاراج (مهدي دايخ)، وزكية المطلقة التي تلجأ للدعارة (ألكسندرا قهوجي) ورواد الدركي الفاسد (جوزف زيتوني).

“هردبشت” فيلم خارج عن قانون اللياقات والعيب والـ”ما بيسوى”، والمداراة السياسية (Political correctness)، ينقل واقعًا حقيقيًا وليس من نسج الخيال. واقع مفخخ بكل الحيثيات السياسية والخلفيات الدينية والحزبية والموروثات الاجتماعية والصعوبات الحياتية التي يؤدي احتكاك بعضها ببعض الى صفعة بمفعول قنبلة نووية وزلزال بدرجة 10 على مقياس ريختر، يهز ستر بيئة فقيرة مهمّشة غارقة في الإهمال والفوضى والفساد والجريمة والمخدرات. بيئة، نحن جيرانها، تبعد عنا أمتارًا قليلة، ولكنها لا تشبهنا ولم ندخلها يومًا في العمق الإنساني الذي سيدخلنا إليها فيلم محمد دايخ.

بيئة نسمع عنها كثيرًا، نشاهد مقتطفات منها على شاشات الإعلام وصفحاته، ولكننا لم نلمسها يومًا لمس الحواس الخمس كما يقدمها لنا فيلم “هردبشت”، الذي رفض من خلاله محمد دايخ أن يتحوّل نعامة تخفي رأسها في التراب لتظل مقتنعة بالأوهام. لقد قرر أن يقول للأعور أعور بعينه، ولفئة من بيئة شيعية مقيمة في ضواحي بيروت (الأوزاعي) أنتِ ترزحين تحت أثقال من الإهمال والفوضى والتهميش والجهل والفقر والاستغلال والفساد والممنوعات على أنواعها (من المخدرات الى القتل وكأنه شربة ماء)، مما حوّلك ضحية وجلاداً في الوقت عينه. طبعًا، يحق لكاتب الفيلم ومخرجه ما لا يحق لغيره، فهو ابن هذه البيئة، وُلد من رحمها، تربّى وسط “زعرنات” شوارعيتها، شرب فقرها ومآسيها وقهرها ومخدراتها وجرائمها مع حليب أم قلبها والحجر، لسانها سلاح متفلّت وعشوائي، مثل شخصية “أم حسين” في الفيلم. وكونه ينتمي الى هذه البيئة، كانت الصدمة الكبيرة والإعجاب الأكبر بهذه الجرأة والوعي والقدرة على قول كل ما يرغب بقوله، وعلى تفجير كل المحرّمات من خلال نقد ذاتي، بعيدًا عن الحقائق التي يرفض الكثيرون الاعتراف بها. وشريكه في هذه الصدمة الإيجابية هو منتج الفيلم أمير فواز (شركة فينيسيا) الذي تسلّح بدوره بالجرأة عندما وافق على كل ما يقدمه الشريط، فترك مطلق الحرية للكاتب والمخرج في تقديم رؤيته الخاصة للأمور، من دون أن يمارس سلطته الإنتاجية ليحد من جموحه.

شريط، الممثلون فيه لا يمثلون بل يتقمّصون الشخصيات، يعيشونها، يتنفسونها وكأن لا كاميرا أمامهم، بل مرآة. بعضهم لم يقف قبلاً أمام كاميرا سينمائية، فهم أصدقاء المخرج وتعاونوا معه في أعمال مسرحية وتلفزيونية، مثل حسين قاووق وشقيقه حسين دايخ، وقد جسدوا حقيقة بيئتهم كما هي، ببؤسها وألمها و”زعرنتها” بلا أي روتوش أو تجميل. وبعضهم الآخر محترف مثل رندة كعدي (التي تُرفع القبعة لجرأتها في قبول دور هو بحق من أقوى وأجرأ وأقسى ما قدمت حتى اليوم، تحت خانة شخصية الأم المحاصرة بها) وغابريال يمين القدير وفؤاد يمين المخيف بموهبته وألكسندرا قهوجي اللافتة بجرأتها، وكلهم ينتمون بدورهم الى مدرسة الممثل الذي لا يمثل، بل يعيش الشخصية حتى الصميم.

“هردبشت”، صفعة ستبقى بصمة أصابعها الخمسة معلمة طويلاً على وجنة الإنسانية والواقع اللبناني  والفن.

 

***محمد دايخ: نحن ننقل الواقع… والواقع يؤلم

“هردبشت” هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج وكاتب السيناريو محمد دايخ الذي سبق أن كتب وأخرج مسرحيات وعروض “ستاند آب كوميدي” وأفلاماً قصيرة قبل أن يبرز اسمه من خلال برامج كوميدية على شاشة التلفزيون مثل “تعا قلو، بيزعل”. ولدت فكرة فيلم “هردبشت” من الحيّ الذي نشأ فيه في عائلة من أربعة شبان. يقول: “أمي تشبه الى حد ما الأم التي نشاهدها في الفيلم، وفي شخصيات الإخوة في الفيلم ملامح تشبه تقريبًا شخصيات إخوتي لكن بعيداً من المخدرات”. وأضاف دايخ “كان من المفروض أن نصوّر الفيلم في الضاحية الجنوبية لبيروت، لكنّنا اخترنا في نهاية المطاف أن نصوّره في الأوزاعي، مما حملني على تغيير تركيبة الشخصيات وبعض التفاصيل”. ورأى دايخ أن “عنوان هردبشت يعكس واقع تهميش المنطقة والفوضى السائدة فيها والتي يصعب تنظيمها. نحن ننقل الواقع كالمرآة، والواقع يؤلم. يا للأسف البعض لا يتقبّلونه، بل يعيشون في أوهام. هناك واقع حقيقي ولكن ثمة من لا يريده أن يخرج الى العلن”.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل