كتبت نجاح بو منصف في “المسيرة” – العدد 1740
مطارات لبنان خمسة وسادسها سرِّي!
…إلى مطار القليعات يُرجى ربط الأحزمةّ!
23 نيسان 2023… صار عمر مطار بيروت 69 عامًا، ولا زال بوابة لبنان الجوية الوحيدة من والى العالم. المفارقة أنه في عيده، تصدّرت المشهد اللبناني حملة شرسة، قديمة جديدة، تطالب بـ”مطار آخر”، فجّرها هذه المرة تلك “الصفقة” المشبوهة لتوسيع مطار بيروت… فشلت الصفقة، وما هدأت حتى الساعة تلك الحملة التي أريد لها هذه المرة أن تكون مواجهة عنوانها الكبير مطار ثانٍ خارج سيطرة “الحزب” وبيئته، مسلّطة الأضواء على حكاية الطيران والمطارات المنتشرة تحت سماء لبنان “الممنوعة من العمل مدنيًا بقرار سياسي”، يتصدّرها مطار رينيه معوض الشمالي.. فهل ينجح أهل منطقة عكار ونوّابها في تحقيق ما عجزت قوى كثيرة عن تحقيقه خلال 30 عاماً؟
تقول الحكاية، قبل أن يصبح للبناننا مطار، عرفت بيروت حركة طيران، ولطالما اندهش و”انفحط” سكانها برؤية طائرات تحلق في سمائها، كيف؟
يروي رئيس جمعية تراثنا بيروت سهيل منيمنة، أنه في 25 كانون الأول 1913، هبطت أول طائرة في ساحة الكرنتينا شرق المدينة. كانت طائرة صغيرة فرنسية من طراز “Bleriot XI” يقودها الفرنسي جول فدرين. يومها غصّت تلك الساحة بألوف البيروتيين من رجال ونساء وأولاد، وكانت تلك الفسحة قد أُعدّت لنزول الطائرة، ففرشت الأرض بمادة الكلس لتمييز الفسحة المعدّة للهبوط عن غيرها، وجمعت الخرق البالية وأُحرقت لإرشاد الطيار بالدخان إلى مكان النزول. وعندما نزل الطيار ارتفع الهتاف والتصفيق، فصافح بعض مستقبليه وتوجّه إلى فندق “بسّول” في محلة الزيتونة. ودّع فدرين بيروت وطار صباح السبت 27 كانون الأول من “مطار” الكرنتينا، وصرّح قبل انطلاقه بإنه يشعر بفرح عظيم وفخر كبير لكونه أول طيار شاهده اللبنانيون.
وفي 29 كانون الأول سنة 1913 كان موعد هبوط الطيار الفرنسي الثاني المدعو بونيه، واكتست ساحة الكرنتينا والبساتين المجاورة لها بالجماهير، وعلى رأسهم الوالي وقائد الجندرمة وقنصل فرنسا. ثم ظهرت الطائرة وهي من طراز “Nieuport monoplane” فوق سراي الحكومة في ساحة البرج…
هذه المناسبات، كما يقول منيمنة، فتحت أعين اللبنانيين على عالم الطيران، وزاد اهتمامهم به ما بعد الحرب، لتتوالى بعدها سلسلة أحداث أرست لإنشاء مطار بيروت.
ما قبل المطار
كانت الفاتحة عام 1920، وتحديدًا على شاطئ عين المريسة في بيروت، حين أنشأ الإنتداب الفرنسي مطاراً حربياً مع برج للمراقبة وآخر للإشارات البحرية، ليباشر بعدها الى توسعة مرفأ بيروت مما استلزم إستعمال كميات كبيرة من الرمال التي نُقلت من التلال الرملية في جنوب المدينة، ما أدّى إلى تسطيح هذه المنطقة التي عُرفت ببئر حسن، فشكلت مكاناً مثالياً لإنشاء المطار، وهذا ما حصل.
وفي العام 1933، أنشأ الفرنسيون مطارًا مدنيًا في بئر حسن أسموه “مطار بيروت الإقليمي” تم افتتاحه رسميًا عام 1938، وبعد استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي عام 1946، أصبح مطار بيروت مرفأً مهماً، لكن مع الازدهار والنمو الاقتصادي للبنان كان لا بد من توسعة المطار وتطويره، فاختيرت منطقة خلدة موقعاً جديداً لإنشاء مطار جديد، تم افتتاحه في 23 نيسان 1954.
منذ إنشائه، عُرف “مطار خلدة” كما كان يُسمَّى، نجاحًا وازدهارًا كبيرين توَّجَهُما أحد أحدث مطارات الشرق الأوسط وأفضل مطارات العالم من حيث الخدمات لفترة غير قصيرة أسهم خلالها إسهاماً مباشراً في ازدهار لبنان السياحي والتجاري والخدماتي، وعرف أيامًا ذهبية كانت جزءًا لا يتجزأ من أيام عز لبنان.
ما كانت بوابة العبور الجوية الوحيدة الى لبنان لتنام، فما بين حركة إقلاع وهبوط، ومع تفوّق حركة الوصول على المغادرة مع رفع شركات الطيران اللبنانية والعربية والخليجية وحتى الفرنسية والأوروبية من عدد رحلاتها باتجاه لبنان، بدت قاعة الوصول وكأنها مقر دائم لاستقبالات، لطالما تقدَّمها رؤساء دول وزعماء عالميون وعرب الى فنانين ومشاهير ومستثمرين واقتصاديين، فضلا عن المغتربين والسياح الآتين الى ربوعنا من مختلف أنحاء العالم، ولطالما كان لبنان قبلتهم الأولى، ودائمًا عبر مطاره الدولي.
لكنَّ المطار الذي أسهم في ازدهار لبنان إبَّان عهده الذهبي، كان أحد أولى ضحايا أزماته السياسية والحربية الطاحنة، حاله كحال لبنان، فكان يتأرجح صعودًا وهبوطاً، بين الحرب والسلم، وبين فريقين وإرادتين، فريق يشد لتنحيته عن كل صراع وتكريسه بوابة عبور عالمية سالمة مزدهرة ترفع لبنان الى سماء العالم، وآخر أدمن إغراقه وتوريطه في صراعات وحروب ومصالح إقليمية، لا تزال مستمرة حتى اليوم.
مطار بيروت في عين العاصفة
نعم.. بعد 69 عامًا على انتقاله من بئر حسن الى خلده، ما نجا مطار بيروت وحتى اليوم من حروب لبنان المستعرة، وأن ينسى لبنان فلن ينسى ما حصل في ذاك اليوم المشؤوم في 28 كانون الأول 1968… فمع انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني والذي أبى إلّا أن يحوّل بيروت الى مقر سياسي وإعلامي للمقاومة الفلسطينية، هاجمت قوة كوماندوس إسرائيلية مطار بيروت ودمرت 13 طائرة مدنية لبنانية كانت جاثمة فوق أرضه، في رد عنيف على عملية خطف طائرة إسرائيلية في مطار أثينا على يد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
ومع تفجّر الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، دخل المطار حقبة سوداء طويلة، ليسجل إقفاله لمرات عديدة. ففي 27 حزيران 1976 قُصِف المطار مرة أخرى، ونُقلت إدارة طيران الشرق الأوسط إلى مطار أورلي – فرنسا، ليُعاد افتتاحه مجددًا منتصف تشرين الثاني 1976 بعد 168 يوماً من الإقفال، وعاد طاقم إدارة “الميدل إيست” الى بيروت، وبكثير من الإصرار والتفاؤل بالمستقبل، أُعيد تأهيل المطار عام 1977.
لكنها الحرب مجددًا.. إسرائيل تجتاح لبنان عام 1982، وتستهدف مطاره الدولي بقصف مركز أدى الى إقفاله لمدة 115 يوماً، مدمّرًا معه 6 طائرات تابعة لطيران الشرق الأوسط من نوع “بوينغ 727”.
في أيلول 1982 استأنف المطار رحلاته بعد تأهيل مدرّجه، لكنه سرعان ما سقط تحت سيطرة الميليشيات، وتحديدًا “أمل” و”حزب الله”، وحوّلوه الى مطار مستباح، وشاهد على أكثر من عملية خطف للطائرات، كان أخطرها ما حصل في 14 حزيران 1985 حين أقدم الحزب على خطف طائرة الـ TWA الأميركية في مطار أثينا وحوّل الرحلة من مطار روما إلى مطار بيروت، في عملية استمرت 16 يوماً، وانتهت بفرض الحظر الأميركي على حركة الطيران إلى مطار بيروت.
عام 1986 انتزع الجيش السوري مطار بيروت من فم الميليشيات ليرسي سيطرته المطلقة عليه. ومع انتهاء الحرب اللبنانية عام 1990، كانت القفزة الأكبر، ليشهد المطار مرحلتي إعادة تأهيل، الأولى عام 1994 والثانية عام 2000، مع اعتماد خطة عشرية أسفرت عن إعادة بناء المطار بالكامل تقريباً، بمبنى رئيسي جديد حل محل المبنى القديم ومدرّجين جديدين إضافيين والعديد من الخدمات والمرافق المتطوّرة الحديثة، وأصبح المطار قادرًا على استقبال 6 ملايين مسافر سنوياً.
في 22 حزيران 2005، أُعلن رسميًا عن استبدال إسم “مطار بيروت الدولي” بـ”مطار رفيق الحريري الدولي”، تكريماً لرئيس الحكومة اللبناني الراحل الذي اغتيل في 14 شباط 2005، وكانت له اليد الطولى في إعادة بناء مطار بيروت بمواصفات متطوّرة، مراهنا على ازدهار اقتصادي وسياحي وحتى سياسي يفضي الى تدفق مثل ذلك العدد على المرفق الجوي الأهم في البلا. ولينضم مطار بيروت بذلك الى مطارات أخرى في العالم تحمل أسماء قادة رحلوا وتحوّلوا الى رموز وطنية.
لكنها الحرب تطل بقرونها مجددًا، هي حرب تموز 2006، وفي 13 منه، القصف الإسرائيلي ينصب مجددًا على مطار بيروت، يدمّر المدارج ويمنع الطيران في الأجواء اللبنانية، ليُعاد فتحه في 17 آب، بعد إعادة تأهيل ما دمّرته إسرائيل، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من تاريخ ذاك المطار لا تقل خطورة، هي مرحلة إحكام قبضة “حزب الله” على مفاصله أمنيًا وإداريًا..
تحت قبضة “الحزب”
في 5 أيار 2008، اتخذت الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة، قرارًا بتفكيك شبكة المراقبة الأرضية التابعة للحزب في المطار وإقالة قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير المحسوب عليه. وكانت النتيجة أن المحاولة الوحيدة التي قامت بها السلطة لتحرير المطار، “توّجت” في 7 أيار 2008، باجتياح “حزب الله” لشوارع بيروت الرئيسية، ومحاولته احتلال مناطق في جبل لبنان، معززًا منذ ذلك الحين، سيطرته و”إيرانه” على مطار بيروت… لغاية اليوم.
أعوام ومطار بيروت الدولي تحت مجهر التقارير الاستخباراتية الدولية، التي لطالما أشارت إلى سيطرة الحزب على المنفذ الجوي الوحيد للبنان، وكيف حوّله إلى مركز لتهريب المخدرات والسلاح والمسلّحين، بما يخدم إيران ومصالحها الإقليمية وخططها للتهرّب من العقوبات الأميركية.
فيما تؤكد مصادر أمنية انه من المستحيل وقف سيطرة الحزب على المطار، إذ كُل ما في المطار يتبع له بما فيه موظفو الأجهزة الأمنية الرسمية، فهو نجح بإزاحة موظفين كانوا يعملون في مواقع حساسة، واستبدلهم بآخرين من مناصريه، بحيث بات كما مرفأ بيروت والمنافذ البرية، مستباح أمام عمليات تهريب البضائع والتي تتسبب بخسائر فادحة لخزينة الدولة اللبنانية.
دعوات لمطار ثانٍ بديل؟
إزاء وضع مطار بيروت المعقّد وفشل تحريره من قبضة الحزب ومن وراءه، تعالت الأصوات داخليًا وخارجيًا لإنشاء مطار مدني ثانٍ في البلاد، حتى أن بعض الدول الغربية المانحة عمدت إلى التعبير عن رغبتها في تخصيص ما بين 75 و100 مليون دولار من مساهماتها لإنشاء مطار بديل لمطار بيروت في حال تعطّله عن العمل بسبب وقوعه في مناطق خارجة عن سيطرة الدولة. ليسلّط الضوء مجددًا على مطارات قائمة في لبنان، منها ما هو في الخدمة الفعلية، ومنها ما أُحيل الى التقاعد وقد حُوِّلت إلى معالم سياحية، بدءًا من مطار رينيه معوّض، أو مطار القليعات، فإلى مطاري رياق وحامات، وصولاً الى مطار بعدران.. والسؤال ماذا وراء تغييبها، خصوصًا أننا قد نكون البلد الوحيد الذي لا مطار بديلاً لدينا لاستخدامه في حال حصول أي طارئ؟ ما الذي تحتاجه هذه المطارات لتحويلها من مطارات عسكرية الى مدنية؟ وأي منها الأكثر جهوزية لإعادة تفعيله؟
لماذا مطار القليعات أولاً؟
يذكر اللبنانيون جيدًا هذا التاريخ، أنه الخامس من شهر تشرين الثاني 1989، موجّهة الأنظار الى مطار القليعات حيث شهدت إحدى قاعاته حدثاً تاريخياً مهماً، مجلس النواب اللبناني ينعقد استثنائياً، يُعيد انتخاب الرئيس حسين الحسيني رئيساً له، يُقرّ وثيقة الطائف، وينتخب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية.
ما كان ذاك اليوم التاريخي ليمر من دون إضفاء المزيد من النجومية على ذاك المطار الغارق في النسيان، وكان له ذلك مع هبوط طائرة بوينغ 707 على مدرّجه، وضجت الصحف بصور تعلن بلا جدل قدرته على استقبال طائرات ضخمة.. حدثان في يوم واحد فتحا الأعين على ذاك المطار الشمالي، الذي اكتسب إسمًا جديدًا مع استشهاد الرئيس معوض غداة عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1989، حيث قرر مجلس الوزراء تسمية المطار باسمه، ليصبح مطار الشهيد رينيه معوّض، اتُبع بقرار حكومي آخر عام 2012 قضى بتوسعته وتطويره لاستقبال الأفراد والبضائع، وربطه بطرابلس بسكك حديدية. ولكن، وحتى اليوم، لا يزال المشروع معلّقاً ولم يدخل حيّز التنفيذ، فيما ثمة إجماع على امتلاك ذاك المطار بنية تحتية وجغرافية تخوّله لأن يكون مطاراً رسمياً شبيهاً بمطار بيروت الدولي.
نعم، فحكاية ذاك المطار الذي يترامى على مساحة 5,5 ملايين متر مربع، والذي أُريد له حتى اليوم أن يبقى عسكريأ، تعزز جدارته لأن يكون ذاك المطار المدني الرديف، فهو لا ينقصه الكثير لتشغيله، مع أهمية بارزة لموقعه القريب من السهل والشاطئ في آن، فهو يقع في بلدة القليعات الساحلية وسط سهل عكار على بعد 105 كلم من بيروت و25 كلم شمال مدينة طرابلس، ونحو 7 كلم من الحدود اللبنانية- السورية.
عن نشأته، يُروى أن شركة نفط العراق الإنكليزية (IPC) شيّدت ذاك المطار عام 1934 كي تستخدمه الطائرات الصغيرة التابعة للشركة في أعمالها وفي نقل الموظفين بين لبنان والدول العربية لا سيما العراق. وفي العام 1966، تسلّمته الدولة اللبنانية وبدأت تطويره وتأهيله مطاراً عسكرياً، ليحوّله الجيش اللبناني الى قاعدة عسكرية، بمواكبة ومساعدة من فرنسا التي زوّدت القوّات الجوية اللبنانية بطائرات الميراج ودرّبت الفنيّين. وتم تجهيزه بالمعدات اللازمة لمطار عسكري حمل إسم “قاعدة القليعات الجوية”.
إبان الحرب الأهلية اللبنانية، برز إسم مطار القليعات مع تعذّر التنقل بين بيروت وشمال لبنان، ما حتم استخدامه كمطار مدني داخلي بديل، فتم تجهيزه بما يؤهله لاستقبال المسافرين وبدأ يشهد حركة هبوط وإقلاع ناشطة بافتتاح أول خط جوي داخل الأراضي اللبنانية، وكانت الطائرة الأولى التي استُخدمت في المرحلة الأولى من نوع بوينغ 720 تابعة لطيران الشرق الأوسط، ناقلة 16 راكباً من الشمال إلى بيروت، وبعدها عمدت الميدل إيست الى تسيير ثلاث رحلات أسبوعياً، وزادتها في ما بعد إلى رحلتين يومياً ، وقُدّرت حينها أعداد المسافرين الذين استخدموا مطار القليعات بنحو 300 راكب يومياً مثبتاً نجاحه كمطار مدني.
وعلى الرغم من الحرب، عاش ذاك المطار آنذاك مرحلة ذهبية، لكن وللمفارقة، الحرب التي أنعشته، هي نفسها من تسبب بانتكاسته، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ هذا المطار أدخلته عالم النسيان واللامبالاة، لكنها “صفقة” مناقصة توسيع المطار في بيروت من ساهمت بإعادة تعويم إسمه مجددا، وأحيت الآمال من جديد بإعادة تحريك مياهه الراكدة، مع تصاعد الأصوات، وبقوة، للمضي بمشروع إعادة تأهيله وتطويره وإعادة تشغيله كمطار مدني، لما له من عائدات على المحافظة الشمالية التي تعاني أزمات معيشية واقتصادية خانقة، فضلاً عن الحاجة الماسة لأن يكون للبنان أكثر من مرفق جويّ كما جميع دول العالم.
الدعوات لتأهيل مطار القليعات، تنطلق من شبه جهوزيته لاستقبال الطائرات المدنية والتجارية وموقعه الهام، إذ ليس في محيطه أبنية تعيق حركة الطيران، وهو مجهّز بمدرج طوله 3200 متر قابل لتطويره إلى 4000 متر وعرضه 60 متراً ويُمكن للطائرات الضخمة، كبوينغ وإيرباص، الهبوط فيه.
والى ذلك، يرتبط المطار بشبكة طرق دولية ساحلية وداخلية، حتى أن أخصائيين وتقنيين يعتبرون أن موقعه أهم بكثير من موقع مطار بيروت الدولي، لعدم تعرضه للعواصف والتقلّبات المناخية التي قد تؤثر على حركته، كما أن الطائرات تستطيع الهبوط والإقلاع من دون الحاجة إلى موجّه، علماً أنه مجهز برادار (G.G.A) يتيح للطائرة الهبوط في أسوأ الأحوال الجوية.
رغم كل ذلك، بقي مشروع استثماره مجمداً، مع تأكيد فعاليات شمالية بأن «فيتو» سياسيًا يحول دون إعادة تشغيله التي قُدّرت كلفتها الاجمالية بـ90 مليون دولار.
مَن وراء ذاك “الفيتو” السياسي؟
تتجه الأنظار بقوة الى “حزب الله” الذي يرفض وجود مطارٍ آخر في لبنان، في منطقة لا تخضع لسيطرته بشكل كامل، خصوصاً وأن جهات حزبية أخرى قد يكون لها اليد الطولى فيه وفقاً لموقعه، خشيةً من استغلاله في مآرب لا تخدمه.. فالكل مقتنع بأنّ عراقيل إعادة تشييد المطار الشمالي سياسية أكثر منها اقتصادية أو مالية، وشاءت الصدف أن يكون جسم “حزب الله” “لبيسا” لتلك الإتهامات، فهل يثبت العكس؟
الشماليون ينتظرون، ويخوضون معركة إعادة تشغيل مطارهم بوجه “فيتو” الحزب كما يقولون، وربما أيضًا بوجه مطارات أخرى في لبنان “مكتومة نفس” مثله، وفي طليعتها مطار حامات، والسؤال لماذا الأفضلية اليوم لمطار القليعات وليس “حامات”؟
ما قصة مطار حامات؟
يذكر اللبنانيون جيدًا ذاك التاريخ المشؤوم، هو نيسان 1975، اندلعت الحرب اللبنانية، وسرعان ما سيطرت المنظمات الفلسطينية على الطرقات الموصلة إلى مطار بيروت، وقد أصبحت مصيدة للعديد من شبان المنطقة الشرقية الذين اختفوا بمعظمهم وضاعت أخبارهم، ومن قُيِّضت له العودة سالماً أخبر عن هول ما تعرض له من تعذيب وحشي.
هذا الوضع المأساوي، وافتقار المنطقة الشرقية إلى منفذ جوي دفع قياداتها للتفكير في ضرورة إيجاد هذا المنفذ خصوصًا وأن مطاري رياق والقليعات سرعان ما وقعا في أيدي القوات الفلسطينية.
وفي العام 1976، سُجّلت واقعة تاريخية مهمة، حيث طلبت الرهبانية المارونية اللبنانية رخصةً لبناء مطار في الشمال، من رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية، بالنظر الى استحالة وصول أهالي المنطقة الشرقية إلى بيروت ومطارها بسبب الحرب. تم منح الرخصة للرهبانية، وتقرّر بناء المطار في منطقة معاد في جبيل، لكن أحد المقرّبين من الشيخ بشير الجميّل تدخّل في ذلك الحين، وتقرّر بناء المطار في منطقة حامات، فوق رأس الشقعة على حدود بلدة وجه الحجر في قضاء البترون، لماذا حامات؟
تقرير مفصل أظهر أن موقع مطار حامات يتمتع بتسهيلات طبيعية تضاهي مطار بيروت الدولي، إذ في الإمكان جعل مدى مدرجه 4 آلاف متر، ومن الممكن أن يبلغ طوله في المرحلة الأولى وبسرعة نظراً إلى طبيعة الأرض 1900 متر بعرض 120 متراً، إضافة إلى إمكانية إنشاء ثلاث حظائر للطائرات، وبذلك يمكنه استقبال 3 ملايين مسافر في السنة و35 طائرة في اليوم، من بينها أضخم الطائرات بفضل تصميمه ونوعية أرض مدرجه الصخرية، وموقعه القريب من البحر، بحيث تنطلق الطائرات منه لتصبح فوق البحر مباشرة وعلى علو شاهق، وهذا ما أعطاه مميّزات تعتبر نادرة عالمياً.
من أهم ميزات هذا الموقع وجوده فوق هضبة مكشوفة تسمح للطائرة بالهبوط فوق البحر بحيث تصل إلى زاوية تقارب الصفر عند أول المدرج في ظاهرة شبه نادرة في المطارات العالمية، إضافة إلى اعتبارات اتجاه الهواء، حيث تبيّن أن هذا الموقع لا تتعطل فيه حركة الطائرات إلا أيامًا قليلة جداً في السنة وهي أيام الشلوق في ظاهرة أيضًا شبه نادرة في مطارات الشرق الأوسط.
وضع التقرير على مكتب الشيخ بشير الجميل والحرب في أوج استعارها، وأكب على دراسته. ومن ثم عقدت عدة اجتماعات تقرّر على أثرها مباشرة العمل في موقع حامات. وصل خبر ما يجري في حامات إلى الشيخ بيار الجميل، فعلا صوته رافضاً هذا الأمر، وعلى رغم التبريرات التي قدمها الشيخ بشير الجميل والآباتي شربل قسيس والعديد من القيادات بقي على موقفه معتبراً تشييد هذا المطار من أشكال التقسيم المرفوض أساساً، لكن بعد جهد كبير عاد واقتنع بالمشروع.
وعلى هذا، شهد صيف العام 1976 تكثيف العمل في المطار، وتزامناً، أسس حزب الكتائب شركة قامت بشراء العقارات الواقعة ضمن حرم المطار وتسجيلها وتقرر تسميته “مطار بيار الجميل الدولي”، لكن الاحتلال السوري كان في المرصاد. ففي ربيع العام 1978، دخلت القوات السورية إلى منطقة البترون واقتحمت المطار الذي أخلاه مقاتلو حزب الكتائب منسحبين إلى منطقة جبيل تاركين فيه معدات الرادار التي كانت وصلت حديثاً من أوروبا، وكان يلزم أرض المدرج طبقة واحدة من الإسفلت ليباشر المطار إستقبال الطائرات. تمركز “السوري” في مطار حامات وأوقف كل الأعمال ونهب جميع المعدات، وأصبح مهبطاً لطائرات الهليكوبتر السورية.
في نيسان 2005، جاء دور الجيش السوري لإخلاء مطار حامات ليتسلّمه الجيش اللبناني، ومع بداية العام 2010 انتقَلَت مدرسة القوات الخاصة إلى نقطة مجاورة للمطار، وكان إنشاء “قاعدة حامات الجويّة” التي تم افتتاحها فعلياً في 24 أيار 2011، بعد هبوط أول طائرة فيه من نوع “سي 130” أميركية، في استقبال رسمي شاركت فيه السفيرة الأميركية وقتئذٍ مورا كونيللي وممثلون عن قيادة الجيش.
وبذلك، أصبح مطار حامات مركزاً أساسياً لسلاح طيران الجيش بعدما شارك خبراء أميركيون في تجهيزه وتدريب الضباط والعناصر، وتحوّل قاعدة للطائرات الحربية (سيسنا) والسوبرتوكانو وعدد من المروحيات، التي كانت تنطلق لضرب أهداف لتنظيم “داعش” في الجرود. وليعود الحديث عنه في كل مرة كان يتم التهديد بإقفال مطار بيروت أو الطرقات الموصلة إليه. وعلى مرّ السنوات، تم البحث في إمكانية توسيع المطار وتطويره لاستقبال الطائرات التجارية الضخمة، فهل هو مؤهل فعلاً لتحويله الى مطار مدني؟
بين “حامات” و”القليعات”
وفق خبراء، مطار حامات مؤهل حالياً لاستقبال طائرات الهليكوبتر والطائرات الصغيرة الخفيفة، ولكن تحوّله إلى مطار مدني لاستقبال الطائرات المتوسطة والكبيرة ليس حالياً بالأمر السهل، فمدرجه يحتاج إلى صيانة خاصة مكلفة، وهو في حاجة إلى تمويل، وقبل ذلك إلى قرار واضح بوجهة استعماله.
وإن كان “حامات” يتمتع بميزات لا يُستهان بها، منها أنه أقرب بكثير من مطار القليعات، الذي يمكن أن يفيد منه أهل الشمال حصرًا، كما أنه يتمتع بأفضلية أمنية، إذ إنه واقع بين جبلين، وبعيد وتمكن حمايته، بعكس مطار القليعات الواقع على الحدود، ويسهل اختراقه أمنيًا، لكن إن كان يجب الاختيار بين “القليعات” و”حامات”، فالأفضلية حتما للأول لأسباب كثيرة يحددها الخبراء أولاً كون “القليعات” مطارًا رسميًا بقرار من الدولة اللبنانية، فيما “حامات” يقع على أرض خاصة، وثانيًا لأن الأول أكثر أماناً أثناء إقلاع الطائرة وهبوطها، لأنه على سطح البحر، ففي حال عدم تمكن الطيار من وقف الطائرة أو الإقلاع بها، تخرج عن المسار الى الرمال. أما الثاني فهو على جبل، وتاليًا إذا لم يستطع الطيار وقف الطائرة تسقط في الوادي، كما أن وضعه الجغرافي يشكل خطرًا على الطائرات في هبوطها، لأن اتجاه الريح فيه معاكس لاتجاه حركة الطيران. ويبقى السؤال هل من مطارات أخرى منافسة لمطار القليعات تحت سماء لبنان؟
مطار رياق
من بيروت والشمال إلى البقاع، هناك، بين مدينتي زحلة وعنجر، تتربع أول قاعدة جوية في لبنان، متفاخرة كونها المكان الذي أبصرت فيه القوات الجوية اللبنانية النور في 1 حزيران 1949، ليُصبح إسمها مرتبطا بهذه القوات، ومأوى الطائرات الحربية اللبنانية، وملاذها الأخير بعد انتهاء خدمتها.
وتقول الحكاية إنه إبان الحرب العالمية الأولى، قامت القوات الألمانية بإنشاء قاعدة رياق الجوية، واستخدمتها في حربها ضد الحلفاء. وبعد انتصار الحلفاء في الحرب، أصبحت القاعدة تحت السيطرة الفرنسية، التي قامت بتوسعتها لتستوعب المزيد من حركة الطيران. إلتفت الفرنسيون إلى أهمية موقع مطار رياق، فعملوا على تأهيل المدارج الرملية وتعبيدها وإنشاء أبنية لا تزال قائمة حتى اليوم، وقد دشّنه الجنرال “غورو” في آب 1920 في احتفال سلّم فيه قوات بلاده الجوية أعلامها.
في تلك الحقبة، تحوّلت قاعدة رياق الى نقطة جذب لكافة الوحدات العسكرية الأجنبية الموجودة في لبنان ومحيطه في سوريا والشرق، لكونها كانت تحوي مساحات للترفيه، وحدائق مزروعة، وأنظمة تدفئة مركزية، والتي لم تكن متوفرة في القواعد العسكرية في تلك الآونة. لكن في العام 1949، أخلت القوات الفرنسية القاعدة الجوية، لتسلّمها للجيش اللبناني بحالة بائسة، نظرًا لغياب الصيانة عنها لفترة طويلة، وكذلك نظرًا لسرقة بعض الموجودات من قبل بعض الحراس. فعمد الجيش اللبناني لإعادة ترميمها وصيانة المباني والبنى التحتية فيها.
في كانون الأول من العام 1973، شهد مطار رياق حادثة بارزة، يومها، زار وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر لبنان، فاعتذر رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجيه عن استقباله رسميًا في مطار بيروت، ليستقبله وأركان الدولة اللبنانية اضطراريا في قاعدة رياق الجوية.
زيارة كيسينجر تلك أطلقت الأصوات المنادية لتأهيل وتوسيع مطار رياق وتحويله الى مطار مدني، مشددة على أنه يتمتع بكل المواصفات بما فيها موقعه القريب من بيروت والجبل والجنوب ويخدم منطقة البقاع بأكملها، بالإضافة الى قربه من الاراضي السورية. إلا أن مصادر عسكرية، أكدت أن، كما مطار “حامات” كذلك “رياق”، فطول المدرّجات لا يتعدّى الكيلومتر ونصف، وهذا لا يكفي لهبوط الطائرات الكبيرة. كما أنهما غير قابلين للتحويل إلى مطارات مدنية.
ماذا عن المطارات الأخرى؟
نعم، ثمة مطار خامس “سري” فاجأ اللبنانيين، ما قصته؟
هي مواقع التواصل الاجتماعي من فضحه عبر صور لمدرج قديم عُرف أنه “مطار بعدران” في الشوف، وهو غير مستعمل، ويُروى أن الزعيم الراحل كمال جنبلاط كان قد بدأ بتشييده لدواعٍ عسكرية إبان الحرب الأهلية في العام 1976، ليعمل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لاحقاً على استكماله، ترميمًا وتوسيعًا، لاستخدامه عسكريًا ولوجيستيًا، لكن مع انتهاء الحرب الأهلية وفرض الدولة سيطرتها، تحوّل المطار إلى موقع سياحي، وقد أقيم بجواره مطعم وبيوت ضيافة خشبية، تستقبل الزوار وتؤمّن لهم المنامة والراحة في هذه الطبيعة الخلابة المطلة على جبال الباروك وغالبية قرى الشوف.
وفي العام 2020، سُلّطت عليه الأضواء، مع انتشار صور لجنبلاط وهو يتجوّل على أرض مدرجه، وأثيرت يومها الكثير من التحليلات والتكهنات حول خلفيات تلك الزيارة، لتدحضها مصادره سريعًا كاشفة أنّ جنبلاط يقصد المطار كموقع سياحي بهدف المشي، وأنّ زوجته نورا هي من التقط له الصور.
يُضاف الى ذلك مطار المرج أو المطار الإنكليزي أو مطار الخيام في سهل مرجعيون من الحرب العالمية الثانية، يعود بناؤه الى أول الأربعينات، ويتألف من مدرجين، لا يزالان في حالتهما الجيدة تقريبًا. يضم المطار برجًا للمراقبة وغرفة قيادة.
هذه حكاية مطارات لبنان، حاضرة لكن محجّمة أو مصادرة.. هي قبضة “حزب الله” تحكم مطار بيروت، وتمارس ذاك “الفيتو” على كل ما عداه.. وفيما يشهد لبنان منذ أيام غلياناً غير مسبوق في طرح قضية مطار القليعات، الكل يسأل: هل سينجح نوّاب عكار هذه المرة في تحقيق ما عجزت قوى كثيرة عن تحقيقه خلال 30 عاماً؟ الكل يراقب وينتظر ويدعم.. لكن ماذا عن الحزب؟
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]