في لبنان، هناك نوعان من المنتمين إليه، فئةٌ تنظر الى الوطن نظرة تقديس، وكأن خيوطاً خفيةً تشد الى تلك البقعة التي كانت نافذةً الى العالم، تشعر بالشوق إليها، وتهيئ، بوحيٍ منها، لخلوةٍ مع سكينتها الضاجة بالجمال، والطمأنينة، وفئةٌ لم تستطع الاندماج بحيثية الأرض والكيان، ولم يكن شعورها الوطني إلا قبض الريح، فارتدى وجودها عدائيةً، وخراباً، ما جعل لبنان يحتمل الظلم، والقهر، وخطر الاضمحلال…
لم تكنْ عدائية هذه الفئة مسألةً مفاجئة، ولم تكنْ، على مر زمانها، عاملاً هامشياً، لكن أصحابها جعلوها، وبحسب الظروف، ترتدي ” قبع الإخفا”، ولونوا وجهها القبيح بمجملاتٍ تموه حقيقتها. وعندما آن أوان الإعلان عنها، في ذروة انهيار الدولة، بحربٍ افتعلها الذين يسيرون هذه الفئة، وبدعمهم الفاسدين، والمتآمرين، والعملاء، والخونة، من البلديين المتواطئين، برزت معالم المؤامرة، مصرةً على إشاعة قلقٍ جديٍ من مشروع إلغاء الكيان، وهدم الهوية، ودوس السيادة، ورجرجة المصير، ونحر الحق.
ليس الهدف من هذا التقديم فتح ذاكرة الدماء، أو استعادة صدى الوحشية التي غرفت من مجتمعنا خيرة شبانه، بل التدليل على خطرٍ داهمٍ لا بد من فهم تداعياته، استناداً الى الوقائع، وبالتالي، لا يمكن تجاهله، علنا نستطيع تطويقه، بما نملك من مقومات. إننا نعيش، اليوم، حالة احتلالٍ يمارس تضييقاً، وإرهاباً، وتسلطاً، وإفراطاً في الهيمنة، والفساد، والنهب، والاعتداء على الحريات والحقوق… وفي المقابل، لسنا نلمح إقداماً، وشجاعةً، ومواجهةً، إلا في بعض المنتديات، ومع القلة من القياديين السياديين.
يصعب علينا أن نقرأ الأحداث قراءةً ساذجة، كما يفترض بنا أن نحدد أن هاجسنا من تبديد كياننا، مرده الى نية استعمار البلاد بالقوة، وجعلها محميةً مسلوبة السيادة، وفرض رئيسٍ صوري، مدارٍ، ينفذ مشيئة “مقعديه” على كرسي الرئاسة التي لا تشكل سوى بروازٍ مخلخلٍ لصورةٍ مشوشة. وهذا يعني، تماماً، تحويل الوطن فريسةً في شدق مالكي القوة، ومنْ وراءهم، وقد بدء إدخال البلد، منذ زمن، في هذا النفق، بغزوٍ مبرمجٍ أمنياً، وسياسياً، واقتصادياً… همش الدولة، وقزم فاعلية مؤسساتها، وجعل قرارها في جيب المستقوين الذين يمحضون ولاءهم لمرجعيةٍ خلف الحدود.
كان لبنان، في زمنه الجميل، جزءاً من رقعة الحضارة، لكنه، اليوم، قيد، وبيد سفاحيه، الى أن يقبل بوجهه على الانحطاط، فغادر، سريعاً، ركن القيمة. ولما لم يكنْ مستحيلاً أن تغور الماء من الحجارة، ليس مستحيلاً، أيضاً، أن يرتدي الوطن بردة الوقوف، ويحتفل بعيد صعوده من جهنم. إن لبنان الذي اعتاد الطواف على منابر التفوق، ومحافل التطور، بمشاركةٍ تستدعي الإعجاب، والتقدير، يخطئ منْ يحسب أن ليس بإمكانه الخروج من الانحدار البغيض، أولم تكن القيامة، معه، ظاهرةً تتكرر، وكان النهوض نشاطاً دائم الحضور، وجزءاً من تراثه الكياني؟
لسنا ننكر أن لبنان جماعةٌ من ” الأمم ” الطائفية والمذهبية، وكان مجالاً للمجتمع الإقطاعي الذي رسخ تميزاتٍ طبقيةً، لكنه، وبالرغم من هذا الشكل الجاهلي، نظم حالة انفتاحٍ بين المكونات، ونجح في العبور الى دولةٍ ديمقراطيةٍ ترفض التمايز بين المواطنين، والمفاضلة بين الأديان، فساد نوعٌ من التعايش أسهم في احترام الإنسان ببعديه الطبيعي، والوطني. وكان لبنان، وسط الأوقيانوس الذي يطوقه، نموذجاً للحرية، والثقافة، والعلاقات الناجحة بين الانتماءات المتباينة على صعيد مكونه الديموغرافي… لكن الانفتاح والتعددية كانا، في الحقيقة، سبباً مباشراً لمأساة الوطن، ولتخبطه في مأزقٍ لا يزال حله أمام حائطٍ مسدود.
إن الديكتاتورية التي تتحكم بلبنان، اليوم، ترفض عالمية لبنان، وتعمل على قوقعته في قمقمٍ محكم السد. وتنتظر هذه الديكتاتورية مكافأتها بإحكام هيمنتها على البلاد، قلباً وقالباً، وقراراً، وتوجهاً… غير عابئةٍ بخيارات الشعب، وقناعاته، وسياق حياته، وانفتاحه على ثقافات الأمم، وحضارات الشعوب. وتعمل هذه الديكتاتورية، استجابةً لمرجعيتها، على تحويل لبنان على صورة هذه المرجعية ومثالها، في رجعيةٍ موصوفة، وقمعٍ للحرية، وتكليسٍ للتطلع الآمل بالتقدم، وانعزالٍ عن مسيرة الرقي.
ليس القدر هو الذي يرتب مواقف الناس، ويفرض قبولهم ما دبر لهم، ويقودهم، صاغرين، الى البصم على ما اعتمد لهم من طريق. فالإنسان أعطي الإرادة، والحرية، ليختار، ويرفض ما لا يقنعه، ويقاوم منْ وما يسعى الى سحقه، لذلك، فاللبناني الذي يمتلك القوة، بطبيعته، والفعل بإرادته، محتمٌ عليه أن يواجه، فالعنفوان المحفور في عمق ذاته، لا يزال يحتفظ بتأججه، فلا يخشى عليه من الإنطفاء تحت رماد التخاذل، والخوف، والهروب، والتسليم بالأمر الواقع، من هنا، علينا أن نعطي العنفوان دوراً أساسياً في التصدي لمؤامرة الشر، والتطويع، وإلغاء وطننا، وهويتنا. اعلموا أن العنفوان، وحده، هو جوهر عيد الصعود الوطني.