البطريرك إسطفان الدويهي: بين “منارة الأقداس” و”تاريخ الأزمنة”

حجم الخط


كتب جهاز التنشئة السياسية – “المسيرة” – العدد 1740 

يوم الثالث من أيار 2004، نظمت جامعة الروح القدس ـ الكسليك ندوة بعنوان “البطريرك إسطفان الدويهي: ندوة بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لوفاته”، وذلك برعاية بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة مار نصرالله بطرس صفير، وتنظيم الأب توما مهنا، العميد السابق لكلية اللاهوت الحبرية في الجامعة.

في الذكرى السنوية الأولى لإعلان البطريرك الدويهي مكرّماً في الثالث من تموز 2008 نشرت جامعة الكسليك كتاباً يتضمن الأوراق البحثية (1) والكلمات (2) التي قيلت في الندوة، لتنير درب كل باحث ومهتم بشخصية البطريرك الدويهي وأعماله وتأثيراته الجمّة على الكنيسة ولبنان.

 

1 ـ حياة الدويهي: من إهدن إلى روما وما بينهما

يشكّل أيار الحدّين المفصليين في حياة الدويهي: أي مكمن الإرتقاء واللّحد… وما بينهما. ولد عام 1630 وفي اليوم الخامس من أيار عام 1670، ارتقى إلى عرش أنطاكيا، وفي الثالث منه عام 1704 رقد بالرب. مات بطريرك الموارنة و”الملفان” والرائد، لكنه بقي حيًا في إرثه ومُثله.

في إهدن مسقط رأسه، تعلّم وتألق تحت سنديانة مدرستها، ما دفع بالمطران الياس الإهدني والبطريرك جرجس عميرا إلى إرساله إلى روما، مدينة النور الخالدة التي وصلها في حزيران 1641. هناك، اقتفى في المدرسة المارونية في روما أثر من سبقه من الموارنة اللامعين. درس الفلسفة والأدب، كما القانون والإلهيات والموسيقى والرسم، من دون أن يعود مباشرة إلى لبنان. جمع، حيث ما حلّ، كل ما يتعلق بالموارنة ولبنان في مدارس روما ومكتباتها من مؤلفات قديمة وحديثة ومخطوطات متنوّعة.

على رغم إغراءات وسخاء العروض التي تلقاها من أغنياء أوروبا، عاد إلى موطنه، ليلبّي نداء الحاجة عند قومه عام 1655. في العام التالي، رسمه البطريرك يوحنا الصفراوي كاهناً على مذبح دير مار سركيس في إهدن. هناك، اهتم بتعليم أولاد قريته مبادئ القراءة والعلم، كما رمم دير مار يعقوب وأقام فيه خمس سنوات، قبل أن يرسله البطريرك إلى مدينة حلب، حيث أمضى خمس سنوات أخرى.

في حلب، أسّس مدرسة، وانفتح على بقية أبناء الطوائف المسيحية حواراً ولقاءً وعملاً. ثم غادرها برحلة إلى الأماكن المقدسة، تلاها تعيينه أسقفاً على كرسي مطرانية قبرص، ثم انتخابه بطريركاً على الكنيسة المارونية عام 1670. لم يُقم طويلاً في الجبّة، بل غادر إلى كسروان هرباً من جور الحكّام وفرضهم للسطوة على الكنيسة. هناك، شمال لبنان، ضيّق الحماديون (3) وولاة طرابلس عليه وعلى أبناء رعيته، فحمل نفسه للمغادرة إلى كل قرى لبنان وجبله، فيقوّي من عزيمة أبناء شعبه.

عاد إلى قنوبين في السنة التالية، مستقبلاً De Nointel، موفد الملك الفرنسي لويس الرابع عشر في تموز 1674. ثم تنقل بين قنوبين وكسروان لعدة مرّات هرباً من جور الحكّام والأمراء وجباة الضرائب، ليستأجر، لاحقاً، من الأمير أحمد المعني قرية مجدل المعوش الشوفية حيث أدخل العمران إليها، وجدد كنيستها، ليعود ويتوفى في قنوبين.

أتقن اللغات السريانية والعربية واللاتينية والعبرية، عدا مُثله العليا، زهده الدائم، وأثره الطيب. إشتهر بتنظيم شؤون الكنيسة، محاربة الإقطاع، والأهم إسهاماته المهمة في مجال التأريخ. لقبه البعض بـ”أبو التاريخ الماروني”، وآخرون بـ”عامود الكنيسة المارونية”، وغيرهم بـ”ذهبي الفم الثاني”

 

2 ـ وجوه مميّزة في شخصية الدويهي

من خلال سيرته وأفعاله، للبطريرك الدويهي ثلاثة وجوه مميّزة: الدويهي المعلّم والعالم، الدويهي طالب القداسة، والدويهي الماروني القائل بدور مميّز للبنان.

أ- الدويهي المعلّم والعالِم

بدأ عمله معلّماً تحت السنديانة، ثم طاف معلماً في أرجاء الشرق. لم يقتصر دوره التعليمي على العمل الفردي، بل خبر بذاته أهمية المدرسة الرومانية لصالح الأفراد والطائفة، فاختار لها، حين أصبح في حيّز المسؤولية، التلامذة المهرة. باهتمامه بهم وبتوجيههم، سهر على تأمين التربية التي كان يتمناها لأولاده، ورسم لهم المستقبل الذي كان يريده وسط بيئتهم الخاصة.

يتمحور عمل الدويهي حول كشف الذات المارونية في أصالتها، وبعث التاريخ الماروني، وإحياء التراث الليتورجي واللاهوتي دونما قصور في رؤيا جمعت، من ناحية، بين الطائفة المارونية كجماعة مهملة في التاريخ الرسمي في حينها، وبين تاريخ المسيحية الشرقية وشعوب الشرق برمته من ناحية أخرى.

كتب حول تنقيح الكتب الطقسية وقام بردّها إلى أصالتها، كما نقح كتب الرتب الدينية والنوافير والأسرار والأعياد والجنازات، وجمع كتب الصلوات بعد تنقيحها. كما استخرج سير القديسين من لغة إلى أخرى، ووضع للشرطونية (أي سيامة الشخص المكرّس) شرحاً مطولاً، كما شرحاً للتكريسات والنوافير الأرثوذكسية، وكتب عن الرشقلات (أي مطالع الألحان السريانية). أما أهم مؤلفاته اللاهوتية، فهي كتاب “منارة الأقداس” الذي يقارن فيه التاريخ واللاهوت والليتورجيا بين الطقوس الشرقية والغربية، وهو كتابه الأهم في المجال الديني العام.

أما مؤلفاته التاريخية فهي على نوعين: الأول في التاريخ الماروني المحض عبر كتاب “سلسلة بطاركة الطائفة المارونية” و”سجل الدويهي” الذي يشمل البراءات البابوية المرسلة إلى الموارنة، و”كتاب المحاماة” في ثلاثة أجزاء (أصل الموارنة، رد التهم ودفع الشبه، والإحتجاج عن الموارنة)، كما كتب أخرى عن أصل الموارنة ونسبهم. أما النوع الثاني، فهو يتضمن أهم كتاب لدى الدويهي، وربما في مجال تأريخ التاريخ في الشرق كله في حينها، وهو “تاريخ الأزمنة” الذي يتناول تاريخ الشرق بأسره. بالإضافة إلى كتب أخرى عن «مقدَّمو بشرّي» (1382-1690) و»تاریخ المدرسة المارونية في روما» وغيرها.

 

ب- الدويهي طالب القداسة (4) وخادم الجماعة

العلم عند الدويهي ليس غاية في حد ذاته، بل كل شيء عنده سبيل إلى الله. كان المسيحي المثالي، فالتزم الزهد والقداسة نهج حياة يومية، فيما عهده بالطموح إلى القداسة كان مبكراً منذ الصبا. كان يميت حواسه في الأكل والشرب والنظر، ولم يذق قط بواكير الأثمار الجديدة. ولكم انقطع في المغاور والأودية حيث كان يختبئ للصلاة والتأمل، فيقوى بهما وبالإيمان على كل المصاعب…

كان الدويهي مؤمناً بالأهمية الاجتماعية للتربية والعلوم، وعلى دراية بمدى تطوّر التعليم الأوروبي مقارنة بالشرقي في زمانه. لذا، اتبع سياسة ناجحة تتمثل في إرسال أكبر عدد ممكن من الموارنة إلى روما، ليصبحوا قادرين على العودة إلى القرى التي يعيش فيها البسطاء والفلاحون، فيقومون بتعليمهم. بهذه الطريقة، ارتفع مستوى التعليم العام، واستطاع الموارنة، لاحقاً، تبعاً لأعمال الدويهي، من لعب دور أساسي في لبنان وتأسيس الكيان اللبناني.

أنشأ الدويهي، كذلك، مدرسة في حلب، أصبحت قاعدة لتطوير الرهبانيات المتنوّعة. وكما هو الحال مع سياسته التربوية، كان تجديده الرهباني ناجحاً، إذ ازدهرت الرهبانيات وعديدها بعدما وضع الحجارة الأساسية لهذا الغرض في حلب وشمال لبنان.

 

ج- دور الدويهي الوطني

أسهم الدويهي في زرع بذور الكيان اللبناني ليس على صعيد طائفته فحسب، بل على صعيد باقي الطوائف التي تشكل أقليات في الشرق تناساها مجمل المؤرخين. أما هو، فله الفضل في ذكرها وتبيان دورها وتفاعلها مع طائفته، ولكم جاهد بوجه حكام طغاة مثل الحماديين والعثمانيين حفاظاً على كيان جماعته، من دون أن ينعزل بقومه عن محيطهم الشرقي والمتوسطي في آن.

يُظهر كتاب “تاريخ الأزمنة” قناعته بوجوب التزام طائفته دوراً فاعلاً في تاريخ الشرق، وبوجوب تفاعلها التعددي مع باقي الأقليات في لبنان بشكل يميّز الكيان اللبناني في واقع تركيبته التعددية ضمن الواقع الشرقي الكلّي. لم يعنِ ذلك قط، عند الدويهي، انغلاقا عن الحضارة العالمية. إن أحد مقوّمات التميّز الماروني، عنده، هو الانفتاح الحضاري على الغرب والشرق معاً.

صحيح أن الدويهي حاول تنظيم شؤون طائفته وتحديثها متأثراً بتنظيمات المجمع التريدنتيني (5) في أوروبا، لكنه لم يتوانَ قط عن إبراز خاصية طائفته. لا يبرح في كتابه رد التهم ويبيّن واقعها الشرقي الكاثوليكي. إن نظرة إلى كتاباته وشخصيته وإلى مختلف جوانب حياته، ما هي إلا مختصر لمعاناة الطائفة المارونية، لمقوّمات شخصيتها القاعدية جذوراً وفروعاً، لتطلّعاتها وتجربتها الروحية والوطنية والحضارية…

 

3 ـ حصيلة عمل الدويهي التفسيرية

مرّت الكنيسة المارونية، منذ القرن الخامس عشر، في بلبلة وضياع لتراثها كما لفهمها لذاتها، من جراء عوامل متعددة، من أهمها الجهل المتفشي بين الشعب والإكليروس، بسبب فقدان المدارس والمعلّمين، وبسبب الفقر المادي وظلم الحكام. لم يكن للشعب من متنفس روحي وثقافي، خارجاً عن صلواته الطويلة المشبّعة بقراءة الكتب المقدّسة، وبعض مواعظ الآباء الأقدمين، وسِيَر القديسين. حتى هذه خضعت للبلبلة والضياع، بسبب تدخل الموفدين الرومانيين الذين رأوا فيها “إنحرافات”، كما بسبب حماس الأفواج الأولى من خرّيجي المدرسة المارونية في روما، الذين أرادوا أن يصلحوا بسرعة هذه “الإنحرافات”، مما زاد في الطين بلّة.

هذه كانت حال الكنيسة المارونية، عندما عاد الدويهي إلى جبل لبنان عام 1655، بعد أن قضى 14 عاماً في مدارس روما، حيث حصّل، بنجاح وتفوّق، المعارف الفلسفية واللاهوتية والعلمية. لم يختر الدويهي البقاء في الغرب كما فعل كُثر من أترابه، كجبرائيل الصهيوني (المتوفي سنة (1648) وابراهيم الحاقلاني (المتوفي سنة 1664)، ومرهج الباني (المتوفي سنة 1711)، ويوسف السمعاني (المتوفي سنة 1768)، الذين برعوا وتميّزوا بالتعليم والبحث والتأليف، بل عاد إلى وطنه ليوظف، ببراعة ونجاح، الحصيلة العلمية في خدمة شعبه.

وعى الدويهي منذ بداية عمله بين شعبه، أن عليه أن يكيّف العلم الذي حمله من روما مع إيمان شعبه وتراثه، لكي يتمكن من أن يقول له شيئاً نافعاً، وقادراً أن يرفع من مستوى فهمه لإيمانه. كان عليه، أولاً، أن ينكب على درس تراثه الماروني السرياني الأنطاكي، منطلقاً من النصوص الأصلية التي تحمل هذا التراث.

في حينها، لم يكن للموارنة من أدب لاهوتي خاص بهم، غير الأدب الليتورجي الضخم الذي عبّروا به عن إيمانهم. لذلك، انكب الدويهي على دراسة هذا الأدب عبر تحقيق النصوص ونسخها في يده. وعندما بات بطريركاً، أحاط نفسه بنُسّاخ مهرة، يعملون تحت إشرافه مباشرة، وذلك من أجل التحقق من النصوص.

على أساس النصوص المحققة، انطلق الدويهي في تفسير النصوص التي يحتفل بها الموارنة بالأسرار الإلهية كافة كما الأعياد والصلوات والألحان، فقاد، بالتالي، ثورة داخل الكنيسة المارونية، أعطتها الاندفاعة اللازمة للوثوب بقوة نحو المستقبل.

لقد نجح الدويهي في كل أعماله التفسيرية للترات الماروني، لأنه أمتلك كل مقوّمات هذا النجاح. لقد استوعب أولاً العلم الذي تلقنه في روما، لا سيما من حيث منهجيته، ثم استوعب ترات كنيسته بالرجوع إلى ينابيعه الأصلية. وهكذا، استطاع أن يفسّر هذا التراث ببراعة وبأسلوب شخصي أصيل، بحيث يترك من يقرأ له مندهشاً أمام غزارة علمه ومعرفته وقدرته على التعبير الدقيق عما يعرف..

 

4 ـ التاريخ عند الدويهي

تأخر تدوين تاريخ لبنان من الموارنة بالمقارنة مع حركة تدوين التاريخ من قبل العرب والمسلمين. وحده، إن صح التدقيق، تيوفيل بن توما، مستشار الخليفة المهدي العباسي، هو أول ماروني كتب عن الموارنة في لبنان. قبل القرن الخامس عشر بثلاثة قرون، كان لبنان وجبله قد أضحوا على هامش التاريخ، بعد الفتح الإسلامي ـ العربي، بعدما كان لبنان قد لعب دوراً مميّزاً في التاريخ القديم.

لقد شعر الموحّدون الدروز، كما الموارنة، وهم جماعات قليلة العدد، ومعرّضة لكل أنواع الضغوط والإضطهاد والخوف على المستقبل والزوال، بضرورة تدوين ماضيهم حفاظاً على هويتهم. أولى المحاولات التأريخية ظهرت عند الموحّدين الدروز، أتت نسخاً شبه مشوّهة وهزيلة عن مدوّنات المؤرخين المسلمين العرب، ولم تخرج عن ذكر تاريخ الأعيان الدروز حصراً، عبر روايات تمزج بين الوثيقة والرواية الشفهية، وغير البعيدة عن التأريخ العام للمنطقة برمتها.

أما عند الموارنة، فكانت زجليات إبن القلاعي (المتوفي سنة 1516) وغيرها من الزجليات الأخرى، تتناقل من جيل إلى جبل، وبالعامية، لتحكي عن الأسلاف وأحداث الماضي، من دون أن يعني ذلك عدم أسطرة بعض مضمونها واختلاط المبالغة أحياناً بالواقع، وذلك بنفس ملحمي ومبالغات بطولية. كان إبن القلاعي لاهوتياً أكثر منه مؤرخاً، لكن ذلك لم يمنع أن تكون كتاباته أول مدماك في إعادة تركيب وتدقيق تاريخ الموارنة.

بعد هذه المحاولات التاريخية التي شهدها الموارنة نهاية العهد المملوكي، ظهر دور البطريرك الدويهي الأساسي. قبله، لم يكن للموارنة من تأريخ فعلي، ومن بعده بات لهم تأريخ حقيقي. ما سبقه كان تأريخاً لا يعطي صورة متماسكة وكاملة عن الماضي. أما معه، فتم تقديم تاريخ شبه كامل عن شعبه، بعد تعامله مع أخبار تاريخية ومتقطعة حققها مراراً عبر الوثائق المحفوظة في أديرة وكنائس لبنان وروما.

هو “أبو التاريخ اللبناني” لا الماروني فقط، لأن مؤلفاته كانت رائدة ومتقدمة زمنياً وصلبة منهجياً، كما كانت غزيرة ومتنوّعة طالت التاريخ الزمني الخاص والعام، كما التاريخ الديني والتاريخ الليتورجي عند الموارنة وغيرهم.

في كتابه الأهم “تاريخ الأزمنة”، استفاد الدويهي من العلوم التي اكتسبها في روما، كما من النهضة الأوروبية القائمة في زمانه، ومن التراثين السرياني والعربي اللذين ينتمي إليهما. استخدم الدويهي المراجع العلمية، وهو أمر كان نادراً في زمانه، كما استخدم أسلوب التقميش (أي التفتيش عن النقوش على حيطان الكنائس والصخور، تحليلها واستخدامها كمرجع علمي)، كما مدوّنات على هوامش الكتب الأصلية، بالإضافة إلى المصادر والوثائق الأجنبية غربية وإسلامية كانت على حد سواء.

في الكثير من كتاباته، أدخل غير الموارنة في معرض أعماله التأريخية، من دون أن يرى ذلك قفزة فوق الواقع التاريخي، أو تلبّساً وهمياً لتاريخ مشترك، في فترة كان غير الموارنة من دروز ومسلمين آخرين يسيرون جنباً إلى جنب منفصلين في تاريخهم، لأنه قبل العهد المعني لم تكن المشاركة بين الطوائف والجماعات قد تحققت بعد في لبنان. إن أهمية الدويهي أنه كرّس نهجاً جديداً، وأفقاً رائداً بقبول الآخر، في سياق شامل لأحداث التاريخ.

عدا قيمة أعمال الدويهي في تأريخ تاريخ الجماعات، كما لبنان والشرق، فهي تعود إلى أنه كان أول من وعى في الشرق، المنحط آنذاك، قيمة التاريخ في استنهاض الوعي وتحديد الهوية والانتساب المجتمعي وبحث الجماعات عن الذات. لقد كان أول من كتب تاريخ شعبه، فقدم عملاً خلاّقاً قدّم فيه الموارنة بطريقة جامعة، متماسكة المصادر، متنوّعة الفكر، موحّدة القيم، هذا من دون أن تخلو من الاختبار والتنظيم والنقد والاستنتاج الذي قدّمه الدويهي بنفسه.

قد يبدو أن ما قاله يوماً المطران بطرس شبلي عن الدويهي قليلاً لما يستحقه: “لم يكن في الشرق كثيرون مثله، ولا نستصغره عن أكبر الملافنة في التاريخ. ضاهى إبن العبَري، وبالكلام عن الأسرار المقدسة والغوامض الإلهية، شابه يوحنا الدمشقي. ولو أنه عاش في القرون الأولى لاعتُبر كأحد آباء الكنيسة… فاق الجميع فصار بتواريخه مبدع تواريخنا، وبمناراته منارة اعتقادنا، وبجهاده ونزاهته مثال الرؤساء وفخر المرؤوسين. بعد التأمل بأعماله وتأليفه، نقول: هو أعظم ماروني علماً وعملاً…”.

 

5 ـ الدويهي والجهاد “السياسي”

غاظ انتخاب البطريرك إسطفان الدويهي الشيخ أبا نوفل الخازن، إقطاعي كسروان. لأن الأمر جرى من دون مشورته، فاستدعى البطريرك الجديد إلى دارته. إلا أن مضمون اللقاء كان حسناً، فانتهى الأمر باتفاق بين الطرفين بعدما علم الخازن بعلو مقام الدويهي وسعة اضطلاعه (6).

في تلك الأزمنة عام 1670، كان الإقطاع قوياً جداً في لبنان، وفي الشرق برمته. كان ساطياً على الأفراد والأرض وكل أشكال السلطات، حتى الدينية والعسكرية منها. كانت التسوية ضرورية مع إقطاعيي آل الخازن بما لهم من مقدرة وقدرة على الفعل والتأثير، فيما عاش الدويهي لسنة ونيف في كسروان، ليعود ويترك أديرتها متوجّهاً إلى قنوبين.

هناك لم يكن السكن حلوا، ذلك أن حكّام تلك المقاطعة، مشايخ آل حمادة، المتاولة، الذين عُرفوا في تلك الأيام بالقسوة والظلم، لم يكونوا ليدعوا البطريرك وأبناءه يعيشون في راحة وطمأنينة. كان على البطريرك الدويهي العودة إلى كسروان هرباً من بطش الحماديين، كما الإعتناء برعيته وتنظيم كنيسته، والتواصل مع الرعايا في حلب ودمشق وأورشليم وقبرص وغيرها لتدبير أمورها.

كثرت في تلك الأيام الضيقات والشدائد على الشعب في جهات البترون والجبة وجبيل والفتوح، وقُتل وسُجن الكثيرون من الأهالي ظلماً ونُهبت أموالهم، وأُحرقت بيوتهم، فيما ذاق البطريرك من ذلك الجور والظلم المضض الكثير. على الرغم من هذه الصعوبات، بقي الدويهي في أشد المحن والتجارب ثابت الجنان يدبّر الكرسي الأنطاكي بعزم وثبات، لا يغفل عن خير أبنائه الروحي والزمني، يُصلّي لأجل أبنائه المظلومين ولأجل أعدائه الظالمين.

لم يجد البطريرك الدويهي يوم راحة طوال حياته في لبنان، بل قضى أيامه في الترحال المتواصل من مكان إلى آخر. بين قنوبين وكسروان وحلب وقبرص وغيرها، كان ظلم الإقطاع والعثمانيين عظيماً، لكن ظلم الحماديين كان الأعظم.

بسبب الظلم وتدخل إقطاعيي آل الخازن الذين خلفوا أبا نوفل في شؤون الكنيسة، ارتحل البطريرك إلى الشوف قاصداً الحكّام المعنيين في دير القمر. استأجر منهم قرية مجدل المعوش، وأقام حوالى الثلاث سنوات فيها حيث جددها وبناها وعطّر تلك الناحية الشوفية بعبير فضائله. لقد ساهم وجود البطريرك في الجزء الجنوبي من جبل لبنان من إعلاء شأن الموارنة فيه، كما في تثبيتهم في أرضهم، وترقيهم الاجتماعي والاقتصادي والعلمي لاحقاً.

كانت علاقة البطريرك الدويهي مع ملوك فرنسا جيدة، فتوسط عندهم الطلب من الباب العالي كفّ يد الحماديين عن النهب والسلب والتجبّر، فكان له ما أراد، وإن بعد حين في الوقت عينه، كان لاتين القدس يتعدّون على أبناء طائفته ورعاياها في مدينة أورشليم، فلم تكن غيرته عليهم أقل من غيرته على أبنائه في شمال لبنان.

ثبّت وجود الدويهي في ثلاث مناطق في لبنان الوجود المسيحي فيها، وساهم، على طريقته، في نشأة الكيان اللبناني، كما في بلورة الشخصية المارونية واللبنانية. عدا أعماله التأريخية التي صبغت في مضمونها الهوية المارونية والمسيحية اللبنانية، والتي دمغت أصالة في نفوس موارنة لبنان دفعتهم، في النهاية، إلى الانطلاق صوب إقامة كيان لبناني يجمع كل العائلات الروحية على أساس الحرية، عمل الدويهي بشكل أساسي على ربط المناطق ذات التواجد الماروني بين بعضها البعض. لم يكن بطريركاً للجبة من دون الشوف، ولا لكسروان من دون البترون، بل كان مؤمناً بأن الكيان الذي زرع بذوره بحاجة إلى ثوابت ثلاث ليقوم: عمق وجداني وتاريخي تمثله قنوبين، قلب نابض بالحياة والبطولة في كسروان، وجسد ممتد إلى الشوف لملاقاة الآخر لبناء وطن.

قيمة الدويهي أنه وعي لأهمية الوجود والهوية والتاريخ.. فكتب عن التاريخ كثيراً، لكنه في العمق، وضع أسس لبنان المستقبلي.

 

ندوة لمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لوفاة البطريرك إسطفان الدويهي، منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك، لبنان 2009.

اعداد: مكتب الأبحاث ـ دائرة الإعداد والتدريب

جهاز التنشئة السياسية

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل