الأم يوسفية حارسة مار سمعان ـ أيطو

حجم الخط


كتب ميشال يونس في “المسيرة” ـ العدد 1740

الأم يوسفية حارسة مار سمعان ـ أيطو

رفعت عن شعبها عقوبة الإعدام جوعًا!

نذرت نذورها للرب، لكنَّ نذرَ الصبيَّةِ الرّحميّة البشرّاوية تسامى إلى طاعةٍ بطوليَّةٍ لإنجيل آيةِ إطعامِ خمسة آلاف جائعٍ مِن أعجوبةِ خمسةِ أرغفةٍ وسمكتينِ قد اجترحَها في بعيدِ بريَّةِ بيت صيدا مُعلِّمٌ تبعته جموعٌ تُصغي إلى تعاليمِه وأمثالِه ومِثاليّاتِه مُعلِنًا للحشود: “أنا هو خبز الحياة”!

راهبةٌ يوسفيَّةٌ رحميَّةٌ لبنانيَّةُ سبقت عصر الراهبةِ الألبانيّةِ تريزا دي كلكوتا وسابقتها إلى إخوة يسوع الصِّغار المُتضوِّرين جوعًا المُنهَكين ذلاً وإذلالاً طوال أعوام الحرب العالمية الكبرى، مُتمِّمةً أعمالَ أفخارستيّا غذائيَّةٍ ترفعُ عن أهلها وشعبها عقوبةَ إعدامِهم وإبادتِهم بالتَّجويعِ المُريعِ، قصدوها هي وأخواتِها الراهبات فما ردَّين طالب خبز حتّى كان آخر رغيفٍ في الدير، معتمدين مستندين على تأكيد يسوع لهنَّ: “من يعمل بكلام الله هو أمّي وأخوتي”. ولم يكن كلام أبينا معطينا خبزنا كفاف يومنا وكرامتنا إلاَّ: “كنتُ جائعًا فأطعمتموني”.

راهباتٌ أخواتٌ سعوا وخاطروا برعاية وإشراف أبيهم أبي الرهبان أنطونيوس موزِّعِ ثرواتِه على الفقراء والبائسين والمُعدَمين لكي يكونُ له ولبناتِه اللبنانيّات النّاذراتِ نذوره “كنزٌ في السّماء لا يفنى”. وعند ساعاتِ سجودهنَّ بحضرة بيت الجسدِ الإلهي كانَ صوتُه الأحنُّ يأتيهنَّ بالتّأكيد والتَّحليل: “داود حين جاعَ هو والذين معه دخل بيت الله وأكلَ خبزَ التقدمة الذي لم يحِلَّ أكله إلاَّ للكهنةِ فقط”!

إنتفضَت سنبلةُ الرّحمة البشراوية أوانَ خضَّ روحها المِعطاء نداءٌ جريحُ الغصَّةِ المُهاجرةِ يُطلقُه من بوسطن الأميركيةِ مواطنُها البشراويُّ إبن خليل جبران وإبنة عمها كاملة رحمة ووجدانُه مذبوحٌ من الرَّغيف إلى الرَّغيف: “يا بني أُمّي في ظلام الليلِ أناديكم… ماتَ أهلي جائعين، ومَن لم يمُت جوعًا قضى بحدِّ السَّيف، وأنا في هذه البلادِ البعيدةِ أسيرٌ بين قومٍ فرحين مُغتبطينَ يتناولونَ المآكلَ الشهيَّةَ والمشارب الطيِّبة… مات أهلي أذَلَّ ميتةٍ وأنا ههُنا أعيشُ برَغدٍ وسلامٍ وهذه هي المأساةُ المُستَتِبَّةُ على مسرحِ نفسي، لو كنتُ جائعًا بينَ أهلي الجائعين مضطَّهَدًا بين أهلي المُضطَّهدين لكانتِ الأيامُ أخفُّ وطأةً على صدري”!

بين يسوع إبن إنسان البشرّاويةِ إبنة البادري رحمة وبين يسوع إبن إنسان البشرّاوي إبن خليل جبران وكاملة رحمة، راهبةٌ مُتحدِّرةٌ من معاقل الأرواح المُتمرّدة يثورُ أيمانُها لأجل إحقاقِ حقوق “خليل الكافر” وينبضُ عقلُها الرحميُّ الأنطونيوسيُّ الرهبانيُّ بجميع أحاسيسِ ومشاعر “يوحنا المجنون”!

 

يوسفية الراهبة المقاومة

هي زمرُّد إبنة بشارة رحمة من بشرّاي، والدتها حنّة غدار رحمة من عيناتا الأرز. ويوم ولادتِها عام 1882 ثمَّ عمادها، تسمَّت الإبنةُ باسم مريانا، لكنَّ جمالها الزمرُّديَّ الأخّاذ وطلَّتَها المُكتملةَ اكتمال إطلالةِ قمر جبال أرز الرب، أكسباها إسم زمرُّد، فعُرِفَت فيه حتى يوم مغادرتها بيتها الوالدي ومهدَ طفولتِها المُشبعةِ بأنفاسِ ونفائس وادي القديسين، سالكةً خطًا مريميًا عابرًا قرى جبّة بشراي الجنوبية يمرُّ داخل قُرى وبلدات حدشيت بلوزا حوقا بان كفرصغاب ثم أهدن فإجبع، وصولاً إلى أيطو، وملؤها ترنيمةٌ مريميَّةٌ مارونيَّةٌ عريقةٌ تُنشدُ لبتول البتولات وعذراء العذارى: “كلُّكِ جميلةٌ وما بكِ معاب”.

وكانت الزمرُّدةُ البادريَّةُ حلوة الحلواتِ تُطِلُ عُمرًا على ربيعها السادس عشر يوم قرَّرت ألّا يلقى جمالُها حظوةً إلاَّ في عينِ وحيدِ الآبِ والعذراء، تلاقيه إلى موعد المواعيدِ ملاقاةِ العذارى الحكيمات حاملاتِ المصابيح المُمتلئةِ زيتًا تنهضُ وإياهُنَّ لحظة النداء الأطربِ سمَعًا: “هوَّذا العريس آتٍ فاخرجوا للقائه”. وانتهى مشوار زمرُّد ذو المسافة السماوية عند بوابة دير مار سمعان العمودي  ـ أيطو الشَّهير بدير مار سمعان القرن نسبةٍ لجبل القرن الأيطاويّ. هو الدير الذي أسَّسه للراهبات اللبنانيات المارونيّات إبن مدينتها بشري رئيس عام الرهبانيّة اللبنانية المارونية الأباتي التاريخي أفرام جعجع البشراوي، وقد سبقتها إلى هذا الدير راهبتان آتيتانِ كُلّ من دعوةٍ فيها كثيرٌ من الإلهام والغرابة: الراهبة مسيحيّة أبي نكد علوان الدرزية الأصل الآتية من رهبانية الراهبات اللعازاريات في بيروت، والراهبة رفقا مراد الريِّس الحملاوية الآتية من جمعية المريمات المُنحلَّة زمن كانت معلِّمة بلدة معاد!

 

دير مار سمعان القرن ـ أيطو

يُرَجَّح تاريخيًا أن يكون دير القديس سمعان العمودي أيطو أحد الأديرة الرهبانية في جبل لبنان الشمالي التي تمَّ تحويلها إلى مارونية بعد نكبة دير مار مارون العاصي بدايات القرن العاشر.

لا وثيقة تاريخيَّة ثبوتيَّة لتاريخ هذا الدير الدّهري، لكنَّ خُبرات بعض علماء الآثار ترجِّحُ بنيانَه فوق أنقاض معبدٍ كنعانيٍّ. وقد سكنه منذ عام 1557 عديدٌ مِن حُبساءٍ وزهّادٍ عُرِف منهم الحبيسُ القَسّ يوحنا بن نمرون الباني. وهذا الديرُ المرافقُ الأجيالِ الترهُّبيّةِ يحوي على أقدمِ مخطوطٍ عن أبي الرهبان القديس أنطونيوس، يعود لعام 1533، وهذا المخطوط تأكيدٌ على أن دير مار سمعان كان مأهولاً منذ ما قبلَ القرن السّادس عشر، كما يؤكِّدُ طوباوينا الجديد مار إسطفانوس الدويهي في كتابِه تاريخ الأزمنة!

2 آذار عام 1846 تسلَّمَ الخوري يوسف الرزّي البسلوقيتي دير مار سمعان من البطريرك يوسف راجي الخازن والمطران بولس موسى لأجل أن يكون هناك دير ثانٍ يستقبلُ الراهبات العابدات. ويوم عيد الشهيدين سركيس وباخوس 7 تشرين الأول 1848 تمّ استدعاء الأم أغاتا البانيَّةَ من دير مار الياس الرّاس لهدف تدبير شؤون راهباتِه المُتحصِّنات بعد تعيين الأب فنيانوس أيطو مُرشِدًا أبويًا يُدبِّرُ وزناتِ حياتِهنَّ الروحيَّةِ الرهبانيّةِ!

فَتحٌ جديدٌ للرب داخل حصون هذا الدير يوم قدمت راهباته العابدات طلبًا بنويًا إلى الأب العام أفرام جعجع البشراوي يلتمِسنَ منه عام 1862 طلب الإنضواء تحت قوانين الرهبانية اللبنانية المارونية، فقبلَ الأب العام الطّلب بعد أن دفع ثمن هذا الدير البالغ عشرين ألف قرش ووفى ديونه البالغة 14 ألف قرش. وتحوَّل دير مار سمعان العمودي ـ أيطو رسميًا ديرًا للراهبات اللبنانيات المارونية يوم 10 كانون الأول 1863. وقد نوى الأباتي جعجع أن يُحوِّله قلعةً من قلاع القداسةِ في لبنان يوم قبل الأخت رفقا الحملاوية فيه وألبسها إسكيمها الملائكي!

 

زمردة دير مار سمعان ـ أيطو

عام 1896 دخلت زمرد بشارة رحمة دير مار سمعان العمودي ـ أيطو ولبست ثوب الإبتداء، مُتَّخذة لها إسمًا رهبانيًا لتُصبحَ الأخت يوسفية. وبمرور سنتين نذرت الراهبة الجديدة نذورها الرهبانية الإحتفالية في شهر الورد والوردية 22 نوّار 1898 على يد مُرشد الدير الأب فرنسيس البشراوي مُمثِّلاً الأب العام مرتينوس الدرعوني.

عاشت الأخت يوسفية في دير مار سمعان مع راهبة المصلوب رفقا سنةً كاملةً إمتلأت حتى شَفَةِ الروح من عجائبية صبر رفقا على أوجاعٍ مديدة تحمَّلها عريسها يومًا واحدًا فوق جبل الجلجلة. أمَّا أغلى ما نالتَه الأخت يوسفيّة من أختها رفقا حبّة قمحٍ أولى يوم قُرعةِ قبولِها مُبتدئةً، ثم حبَّة قمحٍ رفقاويَّةٍ في قرعةِ قبولِها راهبةً ناذرة!

وقعت الحرب العالمية الأولى بأهوالِها ودمارها وضحاياها ومجاعاتِها على اللبنانيين، كما على معظم دول الأرض، فنُكِبَ جبل لبنان بعدوين لا يرحمان لا القوت ولا الزرع، وهما جمال باشا السفّاح والجَّراد. وكان عمر الراهبة يوسفية رحمة 32 سنة، فلم تتوانَ المعروفة بشخصيَّةٍ مصبوبةٍ من جذوع أرز الرب وصخر أشيار قاديشا وبسالةٍ في مواجهة المخاطر إكتسبتها من عائلتها الرحمية المعروفة بين بشري وعيناتا وبلاد الدير، بعائلة المقدامين والشهداء، كما من سائر أهلها البشراويين وعنوانُهم في المقاومة اللبنانية الأب العام أفرام جعجع. نهضت الأخت يوسفية لملاقاة عديد شعبها الجائع الوافد إلى دير مار سمعان كما إلى جميع أديار الرهبانية مُستلهمةً وأخواتِها الراهبات بطلات يسوع، أبيهم العام قديس خبز مجاعة حرب سفر برلِك أغناطيوس داغر التنوري، وبطولات أمين سرِّه الأب مرتينوس طربيه التنوري المعروف “بالراهب البطل”، فنظّمت الأخت يوسفية مع أخواتُها في الدير حملاتٍ لتأمين قمح وخبزِ أهاليها الجياع من محيط دير مار سمعان القريب حتى بعيدِه، فسارت هي وأخواتِها في رحلاتٍ محفوفةٍ مُطوَّقةٍ بالأخطار الداهمة المُروِّعةِ، أخطار الوقوع في شرائكِ جواسيس الإحتلال العثماني الوحشيّ، وأخطارِ سوقِهنَّ إلى أحكام المحاكم العُرفيّةِ بتهمة إنقاذ شعبهم من عقوبة الإعدام موتًا بالتجويع السلطانيّ المُبرَم!

كان أهل الأخت يوسفية رحمة ذات وضعٍ ماديٍّ تموينيٍّ ميسورٍ بالمونةِ والأراضي المزروعة قمحًا في منطقة هراسيا وشاغور الأرز، على مسافة مئةِ ألف متر من الزرع المُنقَذِ بعناية الرب من زحفِ جحافل الجراد، فقصدته إبنتهم راهبة لبنان الباسلة تنقل من بيادر الأرز قمحًا ينال من طحينه وخميره وعجينه وخبزه كثيرٌ من قارعي باب ديرها مار سمعان على نيّة تأكيد يسوع لهم: “مَن منكم إذا سأل أبوه رغيفًا أعطاه حجرًا”!

عام 1918 انتهت حرب جحيم الإحتلال العثماني وانصرف أهل جبل لبنان إلى ترميم الجراح والنفوس والبيوت، وانصرفت الأخت يوسفية رحمة مع أخواتِها راهبات دير مار سمعان العمودي ـ أيطو إلى توجيه محراث الرب في مدى أرزاق الدير وأملاكه، لتبقى كما كانت وقفًا لشعبٍ لبنانيٍّ لم يؤمن بغير أدياره الرهبانيّة حصنًا يلجأ إليه أيام المِحن والشدائد والنّكبات!

 

مطعمة الجياع وحارسة الدير

زمن عيد القديس أنطونيوس الكبير، وكما هو معمولٌ بقانون الراهبات اللبنانيات المارونيات، انعقد مجمع الدير الإنتخابي الذي خُتِمَ بانتخاب الأم يوسفية البادري رحمة البشراوية رئيسةً على الدير حتى عام 1928، ليتجدد إنتخابها في دورة ثانيةٍ امتدت من عام 1933 ـ 1940، ثم دورة ثالثة امتدت من عام 1943 إلى عام 1951، فكانت مدة رئاستها المديدة مُستوحاةً من ثلاثة عناوين إنجيليَّةٍ يستقيمُ فيها ميزان ربِّ الكرمِ والحقل والحصاد في كرمه وحقلِه وحصادِه الديري الرهباني:

أ- آية الوزنات العشر.

ب- آيةُ الفَعَلَةِ الأمناء العاملين من شروق الشمس حتى مغربها.

ج- آية كبيركم فليكُن خادمًا لكم.

وانطلاقًا من هذه الآيات الثلاث، فعلت الأم يوسفية رحمة لديرها ورهبانيتها وشعبها أفعالاً أهلّتها لنيل وسام آية: “الطوبى لكِ أيتها الخادمةُ الأمينة لأنكِ كنتِ أمينةً على القليل فسأعطيكِ أن تكوني أمينة على الكثير”.

عانت الأم يوسفية رحمة من أمراضٍ جسديَّةٍ شابهت في بعضها آلام أختها الراهبة رفقا، فاستلهمتها شجاعة صبرٍ عجيبٍ على تَحمُّلِ آلامها المُبرِّحةِ حتى يوم انتقالها من أرض الصلبان لترتفع روحها نحو ملكوت ناذرات الآلام والقيامة، نعيم العذارى مكيال مصابيح العذارى الحكيمات يوم 29 أيلول عام 1958 داخل أحد غرف المستشفى اللبناني الجعيتاوي، بعد أن نالت سرّ مشحة المرضى والقربانة الأخيرة من يد مؤسس دير بيت القديس شربل في بقاعكفرا الراهب اللبناني الماروني الأب المغبوط جبرائل سكر البشراوي!

الأم يوسفية البادري رحمة البشراوية، حكاية راهبةٍ صاغت من شمس جمالها الجسدي شمسًا روحيَّةً تُشرِقُ على الأبرار فتزيدُهم توهُّجًا، كما تُشرقُ على التّائهين في عتمات الآثام فتُعيدهم إلى المروج المُشرقة بربيع أنوار الفضائل الإلهية!

ودير مار سمعان العمودي ـ أيطو حكاية دير ابتدأ من فوق معبدٍ كنعانيٍّ ليتحوَّلَ إلى مزار عالميٍّ بطلبِ راهبةٍ حملاويّةٍ دعت حبيبها المصلوب لمغادرة صليبِه التمثال مقدِّمةً له كامل جسدها لتنطبع آلامه فيه.. وتحوَّل مزارًا عالميًّا بعينٍ رفقاويّةٍ قُلِعت بمخرزٍ مسبوكٍ سبكَ ذات مسامير الجمعة العظيمة التي كانت مفتاحًا أبديًا لأحد القيامة!!!

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل