هوذا دير متنيّ لبناني تمايز منذ أواخر الجيل السابع عشر الميلادي ببناء ديريّ ذي رسالة شفائية موصوفة من عيادة الإنجيل، تشفي المسيح رأس الكنيسة من جراح الانقسام عليه وحوله. دير وحيد بين أديار المسكونة، جمع ببنائه المعماري الرهباني أقنومين معماريين مبنيين من أقنوم دير أرثوذكسي وأقنوم دير ماروني قد تمّ تشييدهما بنسق هندسي وحدوي، هندسه ورسم خطوطه يسوع الابن بوصيته الأغلى لتلاميذه، “كونوا واحداً كما أنا والآب واحد”!
دير مار الياس شويّا بأقنوميه الأرثوذكسي والماروني هو الأول الأوحد بين الأديار الذي قرأ إنجيل أحد الإبن الشاطر واستهول أفعاله، وهو يشطر ميراث الآب الفاتح دائماً ذراعيه لأبنيه، وكلتا الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية من خلال البابا ليّو التاسع والبطريرك المسكوني ميخائيل سيلاريوس، قد سلكا مسلك وسلوك الابن الشاطر يوم تراشقا بالحرم الكبير الأليم والمفجع في العام 1054، سنة الانشقاق الكبير المصدّع أساسات البيعة الواحدة، فبدّدا ثروة الأبوة القدوسة على مكابرات رؤساء أحبارهم وتعنّتات لاهوتييهم وتنتيعات رعاياهم، مكابرة وتعنّتاً وتنتيعاً بين أحبار تقويم شرقيّ وأحبار تقويم غربيّ وأحبار تقويم الكلام… فضرب الرعاة بتجارب شرير تفريق الأخوة، وتبدّدت نفوس رعيّة الراعي الصّالح في متاهات تضارب الطقوس والنصوص، فهزأت الأمم من مسيحيين ومسيحيّة تلد مسيحها مرّتين، وتصلبه مرّتين، وتقيمه من الموت مرّتين، وتصعده إلى يمين الآب مرّتين… ولعلّ بناة دير مار الياس شويا الأرثوذكس والموارنة، قد أرادوا وصمّموا نزع عار اقتسام ثياب المصلوب والاقتراع عليها، تغطيّة للكنيسة المنشقّة على نفسها وروحها، فرفعوا قامة مداميك ديريهما في بنائين متآخيين متجاورين، يستند أحدهما على الآخر استناداً أخوياً رهبانياً، لتكون حجارة البنيان الشويّاتي بنّاءة صارمة في تليين لاهوتيّة العقول وعقائديّة القلوب المتحجّرة!
مار الياس شويّا الأرثوذكسي
هذا الدير العريق العميق الجذور في الأزمان البعيدة، قد أوقع المؤرّخين عنه في تناقضات تحديد سنة تأسيسه الأوّل، لكنّ أقدم وثيقة محفوظة فيه تذكر وتؤرشف صكّ شراء مؤرّخ بين عامي 1595 و1596، تبيّن بأنّ الباحث “أدموند بليبيل” قد تحقّق بالدليل المثبت من أنّ دير مار الياس شويّا الأرثوذكسي اليوناني قد تمّ تشييده على عقار أرض تعود ملكيتها للكاهن “بطرس كلينك”، الذي عاد ووهب الدير مزيداً من أراض عقارية له في الزغرين وأبو ميزان، كما أنّ ما يؤرّخ لزمان من أزمنة هذا الدير، فهيّ لوحة حجريّة مثبّتة تحت قبة الجرس فوق مدخل الكنيسة الشماليّ القديم والتي تشير إلى شهر نيسان من العام 1550، وهناك مخطوطة هيّ الأقدم تعود إلى 23 تشرين الثاني من العام 1524 تذكر خادم الدير آنذاك الخوري بطرس بن الحاج يوحنا بن المعلوف.
على أنّ أوفى وأثبت شاهد هندسيّ على الإطلاق يشهد بأن دير شويّا قد أنجز بناؤه قبل أن يكون حوله أيّة قرية أو أي مظهر من مظاهر العمران، فهي كنيسة الدير الأكثر قدماً داخله والقائمة في طابقه السفليّ مع ستّ صوامع معقودة ملازمة للكنيسة من جهتها الغربية المؤلّفة من رواقين متوازيين منفصلين بقنطرتين، مع سقف أسطوانيّ في هندسة معماريّة كنسية تواجدت في الشرق وخصوصاً لبنان، منذ القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وكانت بداية بناء الدير الحالي في العام 1760 بهمة رئيسه الأرشمندريت صفرونيوس الصيقلي، وبدعم ومساعدة أحد أعيان بيروت الأرثوذكس يونس نقولا الجبيلي المعروف بأبو عساكر!
مار الياس شويّا الماروني
الياس الجميّل الفتى المدعو من الرب لاعتناق فضائل السيرة الرهبانية، هجر بيت والديه وضيعته شويّا في مسيرة أنطونيوسيّة مشاها من منطقة المتن الشمالي ووجهته شمالي لبنان وصولاً إلى دير مار أنطونيوس قزحيا، ليتجمّل الفتى الجميليّ بمحاسن نذور الطاعة والعفة والفقر أميناً وافياً للرب نذوره. وبعد أعوام عاشها في وادي كنز الحياة، ألهم روح المشورة الصالحة راهب قزحيا الياس الجميّل مغادرة ديره والعودة إلى مسقط رأسه شويّا لغاية وهدف بناء دير مار الياس الماروني على جدار دير مار الياس الأرثوذكسيّ، فارتفع هذا البنيان الملهم من الروح أواخر القرن السابع عشر. بعد أن تمّم الراهب الياس مسعاه وحفظ أمانته، أقتبل مسؤولية تعيينه مطراناً على أبرشية قبرص المارونية، فاستلم دير مار الياس شويّا الماروني مكانه، أبن أخيه فيلبوس الجميّل المولود في شويّا في العام 1740، الملبّي دعوة الكهنوت، فتى يافعاً همّاماً والذي بعد انتقال عمه المطران الياس الجميّل إلى أسقفية ملكوت الأبرار والصديقين، قرّر البطريرك يوسف أسطفان الغوسطاوي تعيين ابن الأخ فيلبوس مكان العم الياس، رئيساً على أساقفة قبرص المارونية. بعد نياح البطريرك ميخائيل فاضل التئم المجمع الأسقفيّ المارونيّ الانتخابي وختم بانتخاب المطران فيليبوس الجميّل بطريركاً على الأمّة المارونيّة يوم 12 تموز من العام 1795!
في العام 1861 قررت الرهبانيّة الحلبيّة المارونيّة المعروفة فيما بعد بالرهبانية المريميّة المارونية، اعتماد دير مار الياس شويّا الماروني ديراً للابتداء، حيث نقلت مبتدئيها إليه من دير سيدة اللويزة. وبحلول العام 1898 نهض الرهبان لترميم ديرهم وتدعيمه ثمّ سقفه بالقرميد. في العام 1957 زمن عهد الأباتي لويس البستاني، هدمت الرهبانية بعض الأبنية المتصدّعة ورفعت مكانها البناء الحاليّ الذي عانى من ويلات الحرب على لبنان منذ 13 نيسان 1975 ما عاناه جميع اللبنانيين!
متشبّهاً بالسّابق يوحنا المعمدان كان دير مار الياس شويّا المكتنز المذخّر بتلاقي واتحاد أقنوميه الأرثوذكسي والماروني.
السابق ليوم لقاء قداسة البابا بولس السادس وقداسة البطريرك المسكوني أثينا غوراس، يوم عيد الدنح في 6 كانون الثاني من العام 1964، في قلب عاصمة كنيسة المهد والجلجلة والقيامة بعد فراق وشقاق وشتات دام 910 من السنين الأكثر جفاء وجراحاً.
6 كانون الثاني 1964 نهار التلاقي والاحتضان والغفران الأخوي، هذا اليوم الذي صنعه وأراده الرب، كان لأجراس دير مار الياس شويّا كامل الأحقيّة والأسبقيّة لأن تفرح وتتهلّل به!
دير مار الياس شويا ذي المركبة النورانيّة التنويريّة فاتح بنائي أقنوميه الأرثوذكسي والماروني فتحة ذراعي الوالد المنتظر الحاضن المرحّب بأبنائه اللبنانيين والأبرشيين طالبي ملكوت الربّ وبرّه في رياضات روحيّة وتثقيف لاهوتيّ من صميم أنجيل المحبة والأخوّة والبشارة، مع ندوات فكريّة ووطنيّة عاليّة المستوى ساميّة الأهداف، وجميعهم يجتمعون وينضوون ويتآخون تحت راية آية صلاة المعلم يسوع الكهنوتيّة المرفوعة لأبيه ضابط الكل، على نيّة خاصّته وتلاميذه كي يحفظهم من شرير التفرقة والانقسام والتّشتّت: “لست بعد اليوم في هذا العالم، وأمّا هم فلا يزالون في العالم، وأنا ذاهب إليك. يا أبت القدوس أحفظهم باسمك الذي وهبته لي ليكونوا واحدا كما نحن واحد”!