يستند بعض الذكوريين إلى ما جاء في أسطورة الخلق القديمة، من أن حواء، أم البشرية، قد أغوت أبانا الأول آدم، ليأكل “تفاحةً” محرمة، فأطاعها وكان الموت له، ولذريته، بالمرصاد، الى منتهيات الدهور. فالخطيئة الأصلية، بحسب الذكور، إذاً، سببها أنثى، وكذلك ما بعدها من خطايا، فالدنس كتب على المرأة وكأن بينهما عشرةً حميمةً، أو كأن الدنس جبل بتكوينها وهي بعد في بال الله!
وكان ذكر المرأة في الأزمنة السود يؤثم، فلكل نزوة مثل في امرأة، حتى اعتبرت صوفاً لا يصلح للغزْل، وقدْراً جامعةً للمعايب لا تلقى منها اليد إلا خشباً صدئاً. وأذاقتها العهود السلطانية أشنع ألوان الجحود، بوصفها نسيجاً عاري العظام، وجثةً دنيئةً لو طرحت الى حيوان قمام لعافها. وقد وصفها بعضهم بالواقع المأسوي الموبوء الذي انحلت فيه القيم، وسادت الرذيلة، لأنه صنفها رمزاً للخطيئة، إغراءً، واجتذاباً للرجل بمفاتنها، وقال، عنها، بعض آخر، بأنها كائن نجس يجب وأْدها، فالخطأة يلدون إناثاً.
لم ينس الزمن التزمت الصارم والمتشدد في أحكامه، والذي أباح التسلط والتعدي على المرأة، وحرمانها من حقوقها، والنظر إليها نظرة احتقار، وكأنها مسخ أو مخلوق ظل، وليست بشراً تاماً تماثل الرجل في الذات، والإحساس، والشعور، والعقل. وما كانت ألفاظ وصفها تشيح عن الشهوة، والضلال، والرغبة في الفسوق، والميل الى الذنوب…وكأنها في غربة موصولة عن مقاييس الرقة، والعذوبة، والطهر، والكبر، فلا تستحق، بذا، من الذين ناصبوها العداء، سوى الازدراء، والإهانة، والإذلال.
إذا كان الصلاح هو مسار الرجال، وحدهم، وهو ركنهم المعنوي الذي يحضن القيم، والبركة، والسلوك الذي يكرز بالنبل، والاستقامة، وكأنهم ورثوا، وحدهم، نعمة الروح التي لم تنفقْ محصولها على سواهم، أو كأنهم، وحدهم، تذكار لعمل الخالق، لذلك، فهم محروسو الصلة بالسماء، فلماذا كانت ذنوبهم، على مر الأزمنة، دفقاً نهرياً لا يتوقف؟ وإذا كان خلقهم عموداً من نور، سنته الفضيلة، فلماذا ازدهر تاريخهم بوصمات عار ودم؟
إن عودةً الى الماضي، في سحيقه، وفي قربه، تنقلنا الى تأريخ الخبائث، والشر، والقتل، والقهر… وهي ذنوب وخطايا ارتكبها “رجال” غصت حياتهم بشغف التسلط، وبلهفة الأحادية، وبالتوق الى إشباع الشهوات بدون ضوابط، وارتكاب المعاصي وكأنها محللات… والأسماء المقيتة لما تزل تلقي ظلها العنيف فوق أدراج ذاكرة الناس، من ملوك وقادة وزعماء، ارتكبوا المجازر، والتصفيات، والإبادات الجماعية، والمحارق، وأشعلوا الحروب التي أتت على ملايين البشر.
والأنكى، أن الشعوب شيدت لهؤلاء القتلة، والإرهابيين، أضرحةً وتماثيل وأنصاباً ونقوشاً لتمجيدهم وتخليدهم، ويقوم منْ يشبهونهم في العنف والفساد والإجرام، في زمننا المشبوك بالبلاء، بوضع زهور على أقدامهم، وكأنهم آلهة.
إذا أتت المرأة شذوذاً عن الالتزام، والخيانة هي المعصية الأشهر التي توصم بها، فبإمكان الندم الصادق، والتوبة المخلصة أن يشكلا سبيلاً مأنوساً للاستغفار، برجوعها عن الذنب، بعد أن تختبر ألم النفس من ذلك الضرر الذي دنسها، وذلك الإثم الذي أفقدها، الى حين، سويتها الأخلاقية. ولأنها لا تأتي الخيانة وحدها، فهذا لا يعني أن المرأة الخاطئة تحتكر التوبة دون الرجل، فهما سواسية في الحصول على الغفران بعدما زجا بنفسيهما، متكافلين، متضامنين، بين مطرقة الشهوة وسندان زوغان الإرادة. لكنهما، وعلى ذمة النية الحسنة، عندما يلمسان أن نعمة التوبة جيدها كثير، يوثقان العزم على ألا يعودا الى مثل ما ارتكبا من خطيئة مذمومة.
أما بعد، فالحماس في تحميل الأنثى عاقبة الزلل، هو انحسار للعدل، وارتداء مردود للباس الحفار، ونوايا مسننة في إطار من التجني على براءة المرأة، وهو، أيضاً، حال من الهروب لإبعاد ملفات الذكر السوداء النافرة عن قوس محكمة القيم.
أما إذا احتكمنا الى مبدأ النسبية، في العدد، وفي المضمون، وفي النتائج الوخيمة، في موضوع ارتكابات الجنسين، فكفة ميزان الرجال حريصة، وبدون جهد، على تبيان فيضها بالدنايا، والآثام، والارتكابات الشنيعة، ما لا يمكن أن يجاريها أو يعادلها أطنان القبائح التي اقترفتها النساء، عبر التاريخ، والتي يمكن أن يقترفنها من ساعتنا هذه، وحتى تقوم الساعة.
تهمة أن الخطيئة أنثى، هي عرف قبيح، ومبدأ ظلم، ونخاسة مذلة، وختْم على الأنثى بالشمع الأحمر، وخلفية ذكورية جنائية، وقرصنة مسعورة للمرأة الإنسان، وتمييز طبقي مسعور يلطخ ضمير الإنسانية، وشكل من أشكال تصغير شأنها، وكأن الذين يتوهون في انحطاط هذا العيب، فاتهم ما جاء في حكمة متبصرة: “لا تحتقرْ كيد الضعيف، فربما / تموت الأفاعي من سموم العقارب”.