تعددت صفحات النضال وبقي المضمون واحداً، القضية والمقاومة والشهادة. لكل مقاوم حكاية ومواجهة مع الموت ولكل رفيق طريقه وطريقته. هم أبطال، كانوا في وسط المواجهة، وضعوا حياتهم على كفهم وقدموها عربوناً للوفاء وإصراراً على البقاء. من قلب النار قاوموا، وبحروف من وجع ودم، وقعّوا أعظم الحكايات، ففاح بخور صمدهم على مذبح الوطن، وقصة جورج جرماني، واحدة من هذه القصص.
عندما اندلعت الحرب في لبنان في العام 1975، كان جورج جرماني، ابن الـ15 عاماً، لا يزال طالباً على مقاعد الدراسة. لم يكن يعرف عن الأحزاب شيئاً، ولم تكن فكرة القتال والمعارك واردة في ذهنه. فجأة وجد نفسه أمام خيارين، إما المحافظة على الوجود الحرّ والعيش الكريم وإما الذلّ والخضوع والانصياع. سمع عن أخبار البطولات فتحمّس. من “الكتائب” إلى “القوّات اللبنانية” استمرّت مسيرة جورج. لم يستسلم يوماً للخوف، ولم يتراجع، لكنه على الرغم من كل ظروف الحرب، تابع تحصيله العلمي في إدارة تكنولوجيا المعلومات.
“ما قمت به ليس بطولة، ولا هو تضحية، هو خيار اتخذته بذاتي عن قناعة. بالنسبة لي، أهمّ ما في الحياة، الحياة نفسها، ونحن قاومنا حتى نعيش، إذ من المعيب التفرج على التاريخ، بدل المشاركة فيه”، بهذه الكلمات يختصر جورج مسيرة نضال استمرت 50 عاماً.
هو ابن بلدة بزبدين – قضاء بعبدا، الذي ترك مرغماً وعائلته قريته متوجهاً الى سدّ البوشرية. بشريط أحداث سريع، يستعيد عمراً كاملاً. بين المجلس الحربي في العام 1977 الى حرب المئة يوم، فجرود العاقورة وتنورين وصنين، وصولاً الى جبهة سوق الغرب، ومعارك الـ1989، ينقّل جورج ذاكرته، متوقفاً عند محطات نضالية أساسية طبعت شخصيته التي هو عليها اليوم. محطات بدأت من معهد بشير الجميّل في غوسطا، حيث التحق بدورة للضباط في العام 1986، ولم تنتهِ بتوليه قيادة كتيبة المضاد للدروع.
تختنق الكلمات، عندما يتذكر رفاق النضال الذين رحلوا، “إصابتي في كفرذبيان وطريق الجلجلة التي مشيتها وحيداً لا تقارن باستشهاد رفاقي، وما أدراكِ ما رفاق السلاح. قدّمت جزءا صغيراً من ذاتي في خدمة القضية أما هم فقدموا حياتهم”.
أصيب جورج في حرب الإلغاء، في منطقة كفرذبيان، في 10 نيسان من العام 1990. هو وآخرون أصيبوا، واستشهد ديب مطر وآخرون أيضاً.
كان يأخذ قسطاً من الراحة، ليتفاجأ بإطلاق نار مباشر عليه وعلى رفاقه. كانت الساعة الثالثة الا عشر دقائق من بعد الظهر، وكان الرصاص ينهمر غزيراً. حاول الاحتماء، لكن الإصابة طاولت رجله ثم رأسه. اندفع نحو الجهة الثانية واختبأ داخل الحشيش لساعات، بانتظار حلول الظلام، علّه يتمكن من المغادرة. بتأثر يستعيد تلك المحطة، “لا أعرف كيف توقّف النزيف في رجلي، ما أعرفه أن ذلك ساعدني على الهروب، وأن الله تدخل في حياتي، فأعطاني روحاً جديدة”.
مصاباً، سار عبر النهر صعوداً باتجاه كفرذبيان، متكئاً على عصا عثر عليها، ثم اختبأ خلف صخرة. “شعرت أنني أعبر طريق الجلجلة، لم أكن قادراً على السير لأكثر من خطوتين، فأستريح لأعود وأكمل الطريق. استغرقت رحلتي بين الأحراش، 24 ساعة، حتى تمكنّت أخيراً من الوصول الى الطريق العام، حيث نقلتني آلية من القوات اللبنانية الى مستشفى سيدة المعونات في جبيل، وهناك خضعت لعمليتين جراحيتين”.
يضيف، “أتذكر أنني لم أكن أسمح لنفسي بأن أغفو، على الرغم من كل التعب والظلام، لأنني كنت أخشى ألا أتمكن من الاستيقاظ مجدداً. كنت أردد في نفسي، لماذا يا عذراء هذا الكأس، تنقلت على عشرات الجبهات، فلماذا أصبت هكذا وحيداً وبعيداً من رفاقي. خشيت من أن أموت وحيداً، لكن ما أخافني أكثر كيف ستتلقى أمي الخبر، وأنا كبير العائلة المؤلفة من 8 أولاد”.
لم يرتبط جورج أو يؤسس عائلة، فهو اتخذ هذا القرار أيام الحرب بقناعة تامة، ليجد نفسه بعد سنوات مرتبطاً بقضية، من المستحيل الانفصال عنها.
بعد اعتقال الدكتور جعجع، تردد جورج الى يسوع الملك، ليبقى على تواصل مع الرفاق والمشاركة في النشاطات. اليوم، وبعد كل هذا التعب والنضال والصمود، يبدي أسفه على جزء من مجتمع لا يعترف بتضحيات واستشهاد الرفاق، ولا يقيم وزناً لعمر شباب رحلوا للدفاع عن الوجود، إنما يسوقون بأن “القوات زعران”.
“لم نكن الا شعلة أمل في مجتمع مهدد، لم نكن إلا أصحاب قضية، كنا وما زلنا، أنا فخور بتاريخي ومشاركتي في الحرب، ولو عاد بي الزمن مرة جديدة الى الوراء، سأكرر هذه التجربة وهذه المرة عن قناعة أكبر”.