عن لبنان والقضية والحنين والعائلة والفدرالية والأسرار
أنطوان نجم. ونقطة على السطر. هو أحد آخر العمالقة الذين جاوروا بشير وأصغى إليهم بشير وصنعوا بشيراً وبكوا حتى النخاع يوم «راح البشير». في حزيران، في الثالث من حزيران، يدخل في آخر عقد من أول مئوية في حساب العمر. إنه الفيلسوف، فيلسوف القضية اللبنانية، الشامخ، الحرّ، المفكّر الذي نادى منذ سبعينات القرن الماضي بالفدرالية وما زال. «هي، كما يراها، قد نضجت اليوم والمسلمون السنّة أصبحوا مثل المسيحيين ومن يريدون لبنان لكل اللبنانيين من دعاتها». هو أنهى للتوّ وضع آخر لمساته على مذكراته وتركها وديعة الى يوم يستدعيه الربّ وبعدها فلتنشر «فثمة أشياء، أشياء كثيرة، أتركها للتاريخ وللأجيال ولكل من آمن بلبنان ولتفشَ بعد مماتي». جلسةٌ معه فيها من الحنين والدمعة والبسمة والثورة والقضية والعائلة ولبنان الكثير.
واضحٌ هذا الرجل كما الشمس. لم تلوِه السنون وإن كان يستعين بين الفينة والأخرى بنصفِهِ الآخر؛ بزوجته روز، شريكته السرمدية لتذكره بأسماءٍ وتواريخ. وفي البداية يقول: «ولدتُ في الثالث عشر من حزيران، يوم عيد القديس أنطونيوس البدواني، لهذا سموني أنطوان. أعبده كثيراً وأتضرع إليه كثيراً كثيراَ».
هو ولد في طرابلس لكنه لم يقصدها منذ زمن «ليس لي أحد فيها الآن». أصله من قرطبا ويزورها بين حين وآخر لكنه حين يكتب يرغب أن يكون في مجاله، في بيته الراكن في الفنار، بين الأشجار والورود التي يمنحه أريجها هدوءاً. هو يحب أن يكتب وهو يسمع سيمفونية بيتهوفن الخامسة التي تنعشه. وله في التأليف 24 كتاباً أولها «الوحدة اللبنانية» كتبه في العام 1960. وآخرها (وليس آخراً) «مفاهيم وقضايا» 2023. هو كتب في العام 2020 «أنطون سعاده في الطريق المسدود» وهو كتاب لم يأخذ برأيه حقه وكل من انتقده لم يقرأه جيداً. نقرأ في أسماء كتبه فنصل الى كتاب دوّن ملاحظة الى جانبه: للنشر في الوقت المناسب. وسماه «مذكرات المؤلف – مسيرة ملتزم» ويقع في 1850 صفحة. فيه أشياء وأشياء لا تحكى اليوم «كلفتُ أحد أولادي بها وقلتُ له تصرّف بها حسب الظروف».
هو يدوّن الملاحظات في كل نقاش وجلسة لهذا كتاباته لم تكن يوماً هوائية أو تستند فقط إلى مخزون الذاكرة بل تتضمن تفاصيل التفاصيل. ألا يقال الجوهر في التفاصيل؟
ويخبر: «كنا ثمانية أولاد، خمسة صبيان وثلاث بنات. أنا الكبير وجاء ورائي إيلي وجوزف وماتيلدا ونبيل وكميل وسلوى ومنى. وحين يتفوه باسم ماتيلدا تلمع عيناه ويذرف دمعاً غزيراً وتنهيدة من عمق العمق ويقول: جدتي كان اسمها ماتيلدا. أحببتها كثيراً. إهتمت بي منذ ولدت. كانت تقرأ الكتاب المقدس باللغة الإسبانية وتقول لي: تاتا يرضى عليك. كانت ترشدني. فوالدتي كانت في المكسيك ويوم تزوجت والدي كانت في الخامسة عشرة من عمرها. كانت بمثابة شقيقتي لا والدتي. لم أنسها لحظة. ويقول: أصيبت جدتي في آخر عمرها بالألزهايمر. نسيت الجميع إلا أنا. ويعود ليمسح دموعه ويقول «إهتمت بكل أشقائي وشقيقاتي ومنى وسلوى آخر العنقود أصبحتا مسنتين لكنني اتعامل معهما كطفلتين. وحدها هذه الفكرة تجعله يبتسم من جديد.
عند مدخل بيته عبارة: بارك هذا البيت. وجنب سريره عبارة: أعطني يا ربّ أن أكون مستسلماً إستسلاما مطلقا لمشيئتك. وفي صدر الدار وصية. إنها وصيته كتبها في الثالث عشر من شهر حزيران عام 2013 تحت عنوان: إلتزموا من غير أن تستزلموا وبعض ما فيها: لا تخافوا من الحرية لا تخافوا من التغيير لا تخافوا من الإنفتاح ولا من النقد الذاتي ولا من قول الحق ولا من إقتحام المستقبل ولا من مواجهة الصعوبات والضلال والتسلط والإنحراف.
لا شيء حدث في حياته بالصدفة بل كل ما عبر فيه كان بمشيئة الله وكل ما تجاوزه باباء وبعدم استسلام كان «بمشيئة إلهية».
نتركه يتحدث على سجيته بلا تدخل «ولدتُ وكبرتُ في طرابلس. درستُ في الفرير. كنتُ أقرأ كثيراً. أصبح في رأسي أرشيف غني من المعلومات منذ كنت طالباً. سكنا في حارة النصارى حيث كانت هناك كل الكنائس لكل الطوائف. وأصبحت تنتشر الكنائس في كل المدينة بعد الإنتداب. لم أحب لعب الأولاد. وحين كنت أجالسهم كانوا يطرحون عليّ كثيراً من الأسئلة وأجيبهم عليها من أرشيفي الخاص. لم تكن هناك إذاعات في ايامي لكنني كنت أجالس المسنين وتعلمتُ منهم الحكمة والكثير.
المسيحيون كانوا الأغلبية في مدرستي أما المسلمون فكانوا من الطبقة الراقية. ويوم مررنا بأزمة شعرتُ بأن المسلمين لم يعودوا يتكلمون معي كما من قبل ما جعلني أطرح كثيراً من الأسئلة على نفسي أولاً. فهل بيننا تباين كبير؟ وذات يوم دعاني أحد الزملاء المسلمين وهو علوي مولود في سوريا واسمه منصور هنود الى دياره. ذهبت الى بلاد العلويين وعدت أيضا بسيل من الأسئلة. يتابع: أتى أحد رفاقي وقال لي الاستاذ هنا. سألته: ومن هو الأستاذ؟ أجابني: ميشال… ميشال عفلق… الذي لجأ يومها الى لبنان وسكن في طرابلس. وبدأ في نشر فكرة البعث العربي (الإشتراكي) قال لي: هو في أبو سمرا وسيلقي محاضرة. ذهبت الى هناك مشياً. كنت المسيحي الوحيد. تكلم عفلق الكثير عن القومية العربية والمسلمين. وصفق له الشباب كثيراً إلا أنا. نظر إلي وسألني: أنت يا شاب لم تطرح أي سؤال ولم تصفق فأجبته بعفوية: لأنني لا أؤيد كلامك ولم أجد فيه لبناني. كنتُ اسمع والدي يوم يتكلم وكان كلامه مختلفاً تماماً. سألني عفلق: ما اسمك؟ أجبته: أنطوان. خبط على الطاولة. وأيقنت أن حضوري لم يكن مستحباً. أخبرتُ والدي بما حصل فقال لي: يا ابني نحن موارنة من قرطبا. ولبناننا هو الأولوية. صرتُ أبحث بعدها عن الإسلام والعروبة والقومية. واشتريتُ كتباً بينها، بالصدفة، كتاب «نشوء الأمم» لأنطون سعاده. هي نسخة من طبعته الأولى قدمتها أخيراً الى جامعة الكسليك.
ويقول: يوم قرأت «نشوء الأمم» قلتُ في نفسي: «معقول أن يكتب مسيحي هو أنطون سعاده كتاباً كهذا؟ أعترف ان ذلك أزعجني. وتابعت قراءات الكتب. إفترست بين العامين 1951 و1953 كتباً عديدة. وكتبتُ أول مقالة لي في جريدة العمل في العام 1954 تحت عنوان: بدء نهاية الشيوعية. وما زلتُ أحتفظ بنسختها. «نشروا عرضي» يومها في بيروت. ومن يومها بتّ أكتب دورياً في الصحيفة. ومن يكتب يفكر مرتين. في حديثنا عن الكتب أخبرنا الأستاذ أن مكتبته الضخمة أصبحت منذ عشرين يوماً في جامعة الكسليك «أخذوا 150 صندوقاً من الكتب».
بعيداً على قرب
دخل أنطوان نجم السياسة من دون أن يدخل في متاهاتها «لم أتعاط السياسة بمعنى السياسة. وما ظلّ يهمني منذ البدء هو الفلسفة السياسية. لذلك، توفي بيار الجميل ولا نتكلم مع بعضنا. كثيرون تفادوني بعدما أيقنوا صعوبة تطويعي ولم يجدوا مأخذاً عليّ». يسمي الأسماء بدون ضغينة لكن بجرأة وعن الشيخ أمين يقول البشيري «أمين الجميل لا يحبني ولا أحبه. وهو أرسل لي شخصاً منذ شهر ليكلمني. دعاني الى الجلوس معه لكنني رفضت. ويستطرد: لم أربح جميل أحد في حياتي وليس لدى أحد مأخذ عليّ. حياتي واضحة من أول سطر حتى اللحظة.
هو أول المنادين بالفدرالية كحلّ في لبنان. اليوم عدنا نسمع عنها كثيراً. فكيف انطلق بها وكبرت معه؟ يجيب «كانت مشكلتنا عدم وجود انسجام في الأفكار بيننا وبين المسلمين. وكنت مديراً لثانوية الجديدة أوفدتني وزارة التربية في العام 1975 الى كندا على رأس وفد من 17 مدير ثانوية. قلتُ لهم هناك: إشرحوا لي عن مقاطعة كيبيك التي هي ضمن دولة فدرالية؟ فعلوا وانا دونت كل الكلام. وانطلقت الأحداث في لبنان وحادثة عين الرمانة في 13 نيسان عام 1975 وانا هناك. ويوم عدتُ دأبتُ على الغوص أكثر في الفكرة. موسى برنس كان من مطلقي هذه الفكرة أيضاً. جلسنا مراراً وتكلمنا كثيراً وذهبنا معاً الى جامعة الكسليك والتقينا بمثقفين وكهنة ومطارنة وبدأنا بلورة الفكرة منذ ذلك الوقت. ولاحقاً عشتها ونشرتُ عنها وسعيت إليها.
كتب انطوان نجم عن «دولة لبنان الإتحادية» و»رؤية جديدة للبنان جديد» و»الفدرالية المنفتحة طريق الى الوفاق والإستقرار» ويقول: «أول مقال كتبته عن الفدرالية واجه رفضاً مسيحياً جاوز رفض المسلمين. إبتسمت الى هؤلاء وقلتُ لهم: سيأتي يوم تقولون فيه لي: معك حقّ يا أنطوان. وها هم الآن يأتون الى منزلي مسلمين (سنّة) ومسيحيين ويقولون لي: معك حقّ يا أنطوان. الإقتناع كان بطيئاً جداً. وأتذكر أنني تشاجرتُ مع بيار الجميل من أجل الفدرالية. لم يستوعبها. فمشيت في السعي إليها من دونه.
بسبب عفلق
إنتسب أنطوان نجم الى الكتائب يوم كان في طرابلس ويتذكر «بعدما سمعت كلام ميشال عفلق بدأتُ أسأل عن الأطراف النقيضة، فقيل لي الكتائب. كان حزباً لا يزال صغيراً. ذهبتُ الى بيت الكتائب في طرابلس وقلت لهم: أريد أن أتابع محاضراتكم. ومنذ ذاك الحين أدركتُ أن لبنان لم يتكون عن عبث بالصدفة. إقتنعتُ تماماً أن لبنان رسالة لا مجرد جغرافيا. لم تعجبني المحاضرات التي كانت تطرح في بيت الكتائب. فأصبحت أقرأ أكثر وأعطي محاضرات فكرية للكتائبيين. وأسست المدرسة الإعدادية في الكتائب وتخرّجت منها أجيال من الشباب. ويستطرد هنا بملاحظة: شعبنا ليس جدياً. الشعب المسيحي لا يقرأ في السياسة بل «يحرتق» سياسياً. وكتبتُ حينها فلسفة العقيدة الكتائبية. وأتذكر أن بيار الجميل قال لي في حينها: في العقيدة فلسفة كبيرة. فأجبته: نحن هيئة سياسية ويجب أن نتبصر مستقبل السلطة. وأتذكر أن فؤاد حداد، الذي كان يكتب زاوية «حصاد» الأيام في صحيفة العمل، رأيه كان من رأيي. أصبحنا أصدقاء. لاحقاً قدمت استقالتي من الكتائب وقلت لهم: أريد الفدرالية لا كتائبكم. إستقلت رسمياً لكن بيار الجميل رفض الإستقالة وتوفي ولم يقبلها. صورة الإستقالة ضممتها الى مذكراتي».
تعرّف أنطوان نجم الى بشير في أوائل السبعينات ويقول: «بشير كان مختلفاً عن كل الآخرين. وأنا صنعته. وأتذكر أول لقاء لي معه. إتصل بي يومها جوزف أبو خليل الذي ظلّ يزورني أسبوعياً وكنا نمضي نهاراً طويلاً نتناول فيه الغداء ونتحدث عن لبنان، عن لبناننا، حتى قبل يومين من مماته. أتذكر أن جوزف قال لي: نحن، أنا وبشير، سنأتي لرؤيتك. وصلا مساء، تكلمنا في المسائل السياسية. وبعد أقل من أسبوع إتصل بي بشير وقال لي: أنا آتٍ إليك. جلسنا وتكلمنا حتى الصباح. قلت له: إما أن نقاوم أو نستسلم. قلتُ له: الجميع ضدنا الفلسطيني والمسلمون ونحن غير قادرين على ملاقاة شريكنا المسلم في البسطة. فإذا أردنا أن نلتقي علينا أن نذهب الى واشنطن والذهاب إليها يقتضي المرور أولا في إسرائيل. نقز بشير. لم يرد ذلك في البداية فرسمتُ له الخارطة». يمسك ورقة وقلماً ويبدأ برسم الخارطة من جديد. هنا الأشرفية وهنا البسطة. والوصول الى البسطة وملاقاة اللبناني الآخر يقتضي الذهاب الى إسرائيل وهي تأخذنا الى واشنطن وواشنطن تأخذنا الى الدول العربية مثل مصر وسوريا ومن هناك نقترب من شريكنا السني. وعندها سيبقى لبنان بشريكيه المسلم والمسيحي. قيمة لبنان كانت وتبقى كونه مسيحياً ومسلماً. هذه هي عقيدتي. وتلك أقصر طريق بين البسطة والأشرفيه».
بعد وقتٍ قصير، قُتل ابن شقيقة بشير( أمين أسود). ذهبت الى التعازي. وهناك علمت ان محادثات بدأت تجرى مع إسرائيل. أقول ذلك للتاريخ. ذهبتُ مرارا الى إسرائيل برفقة جوزف أبو خليل دائماً. رحلتنا الأولى كانت عبر البحر. كنا نلتقي في المياه الإقليمية وأتذكر أنني كدت أغرق ذات مرة. كانت الدنيا عواصف وبرداً. ركبنا الفلوكة (قارب صغير) وانطلقنا من مرفأ جونيه وحين وصلنا الى المياه الإقليمية كانت باخرة إسرائيلية واقفة هناك. رموا لنا حبلاً طويلاً. وما إن وضعت أول قدم عليه حتى أتت موجة كبيرة ورمتني في البحر. بلعت الكثير من المياه. صليتُ كثيراً. وارتطم جسدي بالقارب مراراً وتكسرت أضلعي. وفجأة شعرتُ بيدٍ تنتشلني الى القارب». تجربة صعبة كانت.
كثيرون سيلومون أنطوان نجم على ما يقول. سيتهم بالعمالة. سيتهم بلقاء عدو… يقاطعنا بالقول: كنا نريد ألا نستسلم ونموت. أنا ذهبتُ الى إسرائيل لأحمي نفسي وعائلتي وجماعتي. إجتمعت بمثقفين كثيرين.
مع بشير
نعود الى بشير. وننصت الى أنطوان نجم وهو يتحدث عنه بكثير من الحبّ «كنت ألتقي به يومياً. كنا دائما معاً. كنت أخاف عليه. وخطاباته وبياناته كلا حضرناها معاً. كان سجعان قزي، رحمه الله، في العلن أما سراً فكنا معاً. ويستطرد بالقول: هل تتصورين أن لا صور لي مع بشير على الرغم من حكايتنا الطويلة معاً. نديم (الجميل) عرف بذلك فأهداني يوم عيد الميلاد صورة تجمعنا. هي الآن في صدر الدار. كان بشير يستمع إليّ كثيراً. كنت أقرأ الكتب وأعطيه ملخصاً عنها. كان عنده أنطوان في السماء وكان عندي بشير في السماء. الى أن قرر فجأة أن يترشح لرئاسة الجمهورية. حاولت أن أثنيه عن قراره فأصرّ. كنت خائفاً كثيراً عليه. قلتُ له: جننت؟ كنا في «غروب غاما» الذي أسسه بشير، أنا وجورج فريحه وسليم الجاهل. كنا خمسة لكن ثلاثتنا كنا ضد ترشحه، فيما زاهي البستاني أيد ذلك. لم نرده أن يترشح. قلنا له: إنتظر الى الدورة المقبلة. قلتُ له: الفريق المسلم ضدك عن حق أو من دون حقّ. عليك الإنتظار والمرور في مرحلة يتعرفون فيها على وجهك الحقيقي. كنت أراه يتجه الى الموت بقدميه. كنت أراه ميتاً. بكيت عليه قبل أن يموت».
أصرّ بشير على قراره. كان يريد لبنان وطنا لا مزرعة. إستعجل ذلك. وطلب من أنطوان نجم أن يعدّ له برنامج حكمه ويقول نجم: «إشتغلتُ على برنامج حكم لست سنوات. إجتمعت مع لجان من مختلف الإختصاصات. ولم يعد بشير بعد ترشحه حراً بوقته فطلب من نجم أن يحضر مكانه الى بيت الكتائب في الأشرفيه كل ثلاثاء، في تمام الساعة الرابعة. ويقول نجم: أعطاني مكانه. وفي آخر ثلاثاء، في 14 أيلول، إتصل بي صباحاً وقال لي: لديك عمل كثير تابعه وأنا سألتقي الشباب والصبايا في بيت الكتائب. سيكون اللقاء الأخير قبل دخولي الى قصر بعبدا. قلتُ له: بشير شو بدك بهالشغلة. أصرّ. كنت رئيس لجنة البرامج الخاصة ببشير ومجتمعاً مع الأباتي إغناطيوس مارون عند دوي الإنفجار. إتصلت بكثيرين فقالوا لي: الباش بخير. رأيتُ الناس تركض في كل الإتجاهات. وسرعان ما علمتُ بالخبر: بشير مات، قتل، إستشهد. يمسح أنطوان نجم دموعاً غزيرة عاد وذرفها. الدموع لم تنشف من عينيه بعد. تتدخل زوجته روز في متابعة الأحداث: إعتقدنا أن أنطوان مات. ظنناه كان هناك. وبعد ثلاث ساعات إتصل بنا يبكي مثل الطفل ويصرخ: الباش مات. وحين عاد الى البيت دخل غرفته واستمرّ فيها ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب. وبعد أيام أتى شارل غسطين فدخل إليه وبكيا معا كثيراً وسمعناهما يرددان: خلصت الدني. خلص لبنان.
يمسح أنطوان نجم دموعه ويسترسل في الكلام: راح بشير لكني واثق الآن أن لبنان لن يموت. يهتزّ ولا يموت. ويتذكر هنا كلام صديقه شارل مالك (الأرثوذكسي) الذي قال له يوماً: أنطوان أنتم الموارنة لستم جميعاً أوادم. ربنا سيقاصصكم ويعذبكم لكن لا تخافوا فهو سيعود وينقذكم لأن لديكم في هذا الشرق رسالة وسيدخل الشعب اليهودي في الدين المسيحي عبر الطائفة المارونية. لذلك ربنا يريد لكم البقاء».
مات البشير. القضية لم تنته. فكيف تابعها أنطوان نجم من بشير الجميل الى سمير جعجع؟
مع سمير جعجع
هو تعرّف الى سمير جعجع أيام بشير الجميل ويقول «كانت هناك لجنة أسسها بشير برئاستي وبعضوية كل من سمير جعجع وفؤاد أبي ناضر. تعرفت الى سمير ووثقت به – ولا أزال- ثقة تامة مثلما كنت أثق ببشير». لكن، في فترة من الفترات كانت لديك مآخذ؟ يجيب: «أنا لي مآخذ على نفسي. أما سمير فهو من عجينة القياديين. بطبعه قائد. ويوم كان في السجن كان يأتي محاموه ومعهم لائحة بالكتب التي يريدها سمير كنت أزودهم بما لديّ منها في مكتبتي. وأتذكر أنه يوم خرج من السجن وغادر الى أوروبا أرسل لي رسالة والتقيتُ به يوم عاد وليتني بصحتي لكنت الآن الى جانبه. نسأله: أنت الآن أنطوان نجم الكتائبي أم القواتي؟ يجيب بحسم: أنا قواتي. الكتائب قوات. القوات تاريخ. يا الله شو هالتاريخ الحلو».
أنطوان نجم، صديق شارل مالك، إبن الأصل والقضية والفدرالية، يكرر في كلامه: يرضى عليكِ… يرضى عليكم… هو الحنون على من يعرف ومن لا يعرف وعلى القضية من ألفها الى يائها. ويعود ليسترسل في الذاكرة: «إلتقيتُ بيار الجميل (الكبير) في نزلة لبنان الحر- إذاعة لبنان الحر أسستها أنا وسجعان- وقال لي الشيخ بيار: أنطون أريد أن أراك… ضروري أن أراك… وبعد وقت، بينما كنت أتمشى مع بشير في ساحة المجلس الحربي، تذكر شيئاً وقال لي: ما بك انت ووالدي؟ يقول لي دائماً: دع أنطوان يتصل بي. ذهبت إليه فقال لي: قلّ لبشير أن يصغي الى أمين فهو على حقّ. إعترضت. وأخبرت بشير فقال لي ممازحاً: أمين إذا اشتغل رئيس بلدية بيخربها.
رسل الفدرالية
نعود الى الفدرالية. يقول أنطوان نجم: «المسيحية إنتشرت لأن هناك رسلاً. الفدرالية بحاجة الى رسل أيضاً. والأجواء الآن أصبحت ملائمة كثيراً لذلك. والمسلمون باتوا مقتنعين بها. الفدرالية ليست «كخّ» كما يصورها البعض بل هي تمنح المساواة للجميع. فإذا كان أسلوبي في الحياة مختلفاً عن أسلوبك يمكننا جميعاً البقاء تحت سقف وطن واحد والبقاء أصدقاء. ويستطرد هنا يذكر أسماء تتلمذت على يديه بينها هشام بو ناصيف ورشا عيتاني.
أسس أنطوان نجم عائلة من ستة أولاد، ثلاث بنات وثلاثة صبيان هم: ماري جوزيه (على اسم والدته وكان اسمها خاسوس ماريل) وكاتي ودولي وجان وبيار ومارون. ولديه 12 حفيداً بينهم بالطبع أنطوان. وفي صدر الدار صورة فتاة صغيرة يشعّ الذكاء من عينيها. هي حفيدته إليز التي توفيت بمرض عضال بعمر العشر سنوات، تاركة جرحاً لا يندمل في صدره وصدر أهلها وأهل البيت. ما زال يقرأ كثيراً لكنه يكتب أقل. والموسيقى الكلاسيكية التي يسمعها «تنعشه». هو يمشي نصف ساعة يومياً على شرفة البيت. وينام وفي يده المسبحة ويستيقظ وهي في يده ويقول: «الصلاة أمل. إنها ترفعنا عن الأرضيات وتعطينا قيمة. في الصلاة نتكلم مع يسوع».
زوجته روز رفيقة العمر واللحظات الصعبة واليد اليمنى والرئة التي يتنفس منها. هو تزوج بعمر الثلاثين. ذهبا، كل على حدة الى عشاء، وأعطيت عند الباب اسم أم نوح وهو أبو نوح. لكنهما لم ينتبها الى ذلك في حينها. لاحقاً إلتقيا في قرطبا ومنذ رآها قال في نفسه: هذه ستكون زوجتي. ويقول: حبي لها يزيد مع الأيام. تعلقي بها لا يوصف والله شاهد على ذلك.
أمور كثيرة لم تحدث صدفة في حياة أنطوان نجم. الله سيّر حياته وهو استسلم دائما لمشيئته. في الختام، قبل أن نغادر، كتب لنا ولكم زوادة العمر من خلال تجربته: إن للحياة مقتضياتها وتوجيهاتها لذا ينبغي أن نسمع لها ونعتبر أن العناية الإلهية تسيّرنا إن نحن قبلنا بأن نفهم مقتضياتها.