كتب أنطوان مراد في “المسيرة” ـ العدد 1741
المرجعية الروحية والثقافية والإنسانية التي يمثلها الفاتيكان للبنان ولشريحة واسعة من اللبنانيين كانت دائمًا موضع جدل وتساؤلات عندما تقترب العلاقة مع الكرسي الرسولي من الشأنين الوطني والسياسي، علمًا أن أطراف الجدل لا تنحصر بفئة أو بطائفة بل تشمل المسيحيين ومنهم أبناء الطوائف الكاثوليكية وعلى رأسهم الموارنة.
يعود أصل العلاقة إلى تمايز الموارنة بشكل أساسي ككنيسة شرقية عن سائر الكنائس المشرقية في الشراكة مع روما، كعلامة تمايز بخلفيات روحية وغير روحية، لا سيما لجهة تعلق الموارنة باستقلاليتهم وحرصهم على الحضور في المشرق كأمة تجمع بين الإيمان والأرض والحرية. على أن الولاء لروما لم يلغ التوجه الاستقلالي للموارنة وكنيستهم والذي تجلّى أحياناً بخلافات وإشكالات لم تبلغ حد الانفصال، لا سيما وأنها كانت أحياناً نتيجة تباينات حول مواقع ومناصب أو توجهات محلية تتوزع بين من يدّعي القرب من روما أو يحظى برضاها، وبين من يفتقر إلى قنوات تواصل مع الكرسي الرسولي.
على أن الفاتيكان حرص دائمًا على دعم الوجود المسيحي في الشرق وفي لبنان بالدرجة الأولى انطلاقاً من الدور الماروني المحوري فيه، بل إن هذا الدعم تجلّى في مراحل معينة بنشوء كنائس مشرقية كاثوليكية جديدة كتكريس لانفصال قسم من الأساقفة والكهنة والمؤمنين عن كنائسهم المشرقية الأرثوذكسية لخلافات معينة أو لأسباب مختلفة، لتكون الى جانب الكنيسة المارونية التي لم يبخل بطاركتها وبعض أعيانها في دعم تلك الكنائس الجديدة فاحتضنوها وقدموا لها الأملاك والأراضي والدعم على أشكاله، على غرار طائفتي الأرمن الكاثوليك والسريان الكاثوليك، اللتين تتخذان من وسط كسروان (درعون وبزمار) المركزين التاريخيين لبطريركية كل منهما، فضلاً عن طائفتي الروم الملكيين الكاثوليك في لبنان وسوريا بشكل أساسي والكلدان في العراق.
وإذا كانت الخلفيات السياسية والتنافس على السيطرة سببًا أساسيًا في الانشقاق الكبير بين الكاثوليك والأرثوذكس من خلال تمايز الإمبراطورية البيزنطية عن الإمبراطورية الرومانية تدريجًا، وصولاً إلى استمرار بيزنطية من دون روما، فإن الانقسام استمر كنسيًا، وكان له أثر نسبي في خيارات البابوات على مر الأيام، في ما يتعلق بالمسألة المشرقية والتي انتهت بولادة لبنان كخليفة لجبل لبنان والإمارة، لا سيما وأن الأمير فخرالدين الثاني الكبير نسج علاقة نوعية مع دوقية توسكانا ولم يكن الكرسي الرسولي بعيدًا منها، بل إن الأمير اللبناني راهن على دور ما للكرسي الرسولي في دعم تطلعاته الاستقلالية، لا سيما من خلال العلاقة الطيبة التي جمعت فخر الدين بالبطريرك الماروني يوحنا مخلوف، والتي شجعها البابا بولس الخامس.
واستمر الحضور الفاتيكاني بالتنسيق مع بعض الدول الأوروبية الكاثوليكية التي ساهمت في حماية المسيحيين في بعض المراحل، لا سيما مع إدراك الهزال الذي أصاب السلطنة العثمانية تدريجًا. ولعبت الإرساليات الكاثوليكية بدعم من الكرسي الرسولي دورًا أساسيًا على الصعد النهضوية من تربوية وثقافية وعلمية واجتماعية واقتصادية، وهو ما تجلّى في أنحاء مختلفة من جبل لبنان وبيروت وسائر المناطق التي تضمُّها الحدود التاريخية للبنان.
وقد واكب الكرسي الرسولي عن كثب ولادة لبنان الكبير ومن ثم الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، من خلال دعم توجّهات بكركي، وصولاً إلى مرحلة الحرب التي لم يتأخر البابا بولس السادس في التنبّه لمخاطرها منذ البداية، فأرسل الكاردينال برتولي كموفد خاص استمرت مهمته أكثر من ثلاث سنوات، ثم أرسل البابا يوحنا بولس الثاني، الذي شبّه لبنان بوطنه بولونيا، الكاردينال إيتشيغاراي لاحتواء تداعيات الاجتياح الإسرائيلي ثم الانسحاب بعد حرب الجبل، وخصَّ منطقة جزين بممثل خاص هو الأب سيلستينو بوهيغاز الذي استمرت مهمته في دعم صمود المنطقة حتى العام 1990.
وتمثلت قمة العناية الخاصة للبابا القديس بلبنان، بالسينودس الخاص ببلد الأرز في العام 1995 والذي توَّجه بزيارة تاريخية للبنان، أحيت الروح الاستقلالية والسيادية، علمًا أن العلاقة الخاصة التي جمعت يوحنا بولس الثاني بالبطريرك مار نصرالله بطرس صفير كان لها أثر كبير في توجيه الكثير من المواقف والتطورات.
ولم يتغيّر أداء البابا بنيدكتوس السادس عشر كثيرًا حيال لبنان وخصه بزيارة قبيل تقاعده. أما مع البابا فرنسيس فإن العلاقة بلبنان شهدت طلعات ونزلات، خصوصا وأن البابا الأرجنتيني ركز منذ بداية حبريته على قضايا الفقر والهجرة والمرض، ولم يخص لبنان بما خصه به أسلافه من اهتمام، لأنه لم يكن على دراية كافية بقضيته، كما قال مرجع ماروني كبير لزواره عندما سألوه عن رأي الفاتيكان بمبادرة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لتكريس حياد لبنان.
على أن حضور لبنان تحسَّن في أجندة الفاتيكان بشكل متسارع في الفترة الأخيرة، وبدأ الحبر الأعظم يولي القضية اللبنانية المزيد من الوقت والعناية، لا سيما وأن اللبنانيين يعانون الأمرّين ويعيشون ما ركز عليه البابا طويلاً من فقر وعوز وأزمات اجتماعية واقتصادية.
وقد عكس تعيين السفير البابوي الجديد المونسنيور باولو بورجيا المناخ الفاتيكاني الجديد، في ضوء ما يبديه من حرص على معالجة الشأن اللبناني بواقعية مع إدراك الأسباب الحقيقية للأزمة المستحكمة.
وتؤكد المعلومات أن الجو الفاتيكاني تحسَّن جدًا حيال لبنان، وفي هذا الإطار صبت زيارة النائبين طوني حبشي وملحم رياشي أخيرًا للكرسي الرسولي حيث التقيا موفدين من رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع بشكل خاص أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين، وكان اللقاء جيدًا وعكس تفهّم الكرسي الرسولي لقلق اللبنانيين والمسيحيين بخاصة، وتم التوافق على استمرار التواصل، كما أن بارولين كان صريحًا مع المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم على التوالي لجهة التعبير عن استهجان تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية وإهمال الإصلاحات المطلوبة.
وللمتسائلين والحيارى حيال دور الفاتيكان وقدرته على مساعدة لبنان، يكفي استحضار كلام مرجع فاتيكاني رفيع لزواره اللبنانيين: لا تقولوا ساعدونا فحسب، بل قولوا لنا كيف يمكننا مساعدتكم أيضًا.
أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]