يقول المثل اللبناني “رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا”! الهمّ في لبنان هو ترسانة عسكرية تتحكم بالبلاد وتحتل القرار السياسي فيه، الهمّ في لبنان عملاء في الداخل يعملون لأجل هيمنة الخارج على كيان لبنان وسيادته، الهمّ في لبنان أن فريقاً يدّعي “الممانعة” ويرفض حتى الساعة انتخاب رئيس للبلاد من خارج سطوته وإلاّ لا رئيس.
بكل صبر وحكمة يحاول البطريرك الراعي التواصل مع الأفرقاء السياسيين كافة، للتوصل الى الاتفاق على شخصية غير استفزازية لتتولى رئاسة الجمهورية، يُعلّي الصوت حيناً، يهادن أحياناً ولا من يستجيب من فريق الممانعة، ولما أقفلت بوجهه أبواب الوطن بسبب تحدي وإصرار الثنائي الشيعي على فرض رئيس خاضع لهما، وتجلى الرفض بإقفال الرئيس بري لمجلس النواب بوجه هذا الاستحقاق الدستوري الالزامي، وبعدما كانت تبنت فرنسا ترشيح مرشح تابع للمانعة، اضطر البطريرك الماروني للتوجه الى باريس للقاء سيد الاليزيه وتوجيه بوصلة “الأم الحنون”، التي شابتها بعض شوائب الضياع، الأمر الذي لم يعجب المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، فأصدر بياناً أقل ما يمكن توصيفه، بالتعدي على كرامة بكركي، والاستخفاف بسيدها، إذ تضمن ما يشبه التهديد المبطن بأن لن يكون لنا رئيساً الا من عباءة نصرالله ونبيه بري وليعترض البطريرك ما شاء!
سمح الشيخ الجليل لنفسه بأن يوجه ما يشبه التأنيب للبطريرك الماروني، إذ قال “لبنان يُصنع في لبنان وليس في الطائرة، والسيادة الوطنية على أبواب مجلس النواب وليست بالأوراق المحمولة جواً، وتاريخ لبنان شاهد”! صحيح، فتاريخ لبنان وحاضره البائس هو شاهد على انصياع فريق لبناني لأوامر طائرة عبر الحدود، مصدرها طهران، حوّلت لبنان الى أرض مستباحة لهمجية الارهاب والتخلف.
لم يتوانَ المفتي الجعفري عن تخوين اللبنانيين والمسيحيين تحديداً المعارضين لهيمنة الحزب، من خلال الإيحاء أنهم عملاء أميركا والصهاينة، وأنه لولا وجود المقاومة ونبيه بري و”حركة أمل، لكان اتفاق 17 أيار أصبح نافذاً، لكن “المقاومة شطبته بالدم واستردت لبنان”!
استردت لبنان؟! كلام شاعري جميل، لكن هل هذا هو لبنان البلد المتطور منبع الحضارات والثقافات والحريات على عهد “المقاومة؟”، أم لعل المقاومة علّمتكم أن الوطن المحتل المسلوب الارادة والسيادة والعنفوان والمعزول عن محيطه هو الوطن؟
لم يتحمّل الشيخ الضنين على العيش المشترك، دعوة البطريرك للرئيس بري لممارسة واجبه الوطني بفتح أبواب البرلمان لانتخاب رئيس، فتحوّل سيد الموارنة الى ما يشبه الكافر، مقارنة مع تاريخ الرئيس بري الذي “باللعبة البرلمانية ساوى مصالح لبنان الوطنية يوم كان لبنان معروضاً في البازار وعلى عينك يا تاجر”، كما يقول. وذهب الشيخ الجليل الى أبعد بكثير حين عزا بقاء لبنان الى موسى الصدر وعباس الموسوي ونبيه بري وحسن نصر الله، ومن ثم أردف في السطر الأخير جملة ترضية للمسيحيين “وباقي قامات شريفة من كل الطوائف بهذا البلد”.
شكراً، لأنك تذكرت ما تبقى من “قامات شريفة”، إذ من يقرأ البيان يظن ألا قامات شريفة في لبنان الا نصرالله وبري، وأن الموارنة والمسيحيين عموماً، هم “هيك” مجرد شعب “طارىء” على تاريخ لبنان وحضارته، وتحديداً على تاريخ إنشاء دولة لبنان الكبير. هل سمعت يوماً بالبطريرك الحويك يا شيخنا الجليل؟ أكيد قرأت وسمعت.
مسك ختام البيان “الوطني” حين يقول الشيخ الجعفري، إن “الثنائي الوطني هما أم الصبي وعين السيادة وحارس وجود هذا الوطن المحمول ظلماً بالحقائب”، ليختم بتهديد واضح “صبرنا طويل ووطنيتنا مضرب مثل… وعلى البعض أن يخرج من لعبة بازار الأوطان، لأن لبنان لن يكون إلا لبنان”.
للتذكير، أولاً لا يحتاج سيد بكركي لدروس في الوطنية ممن قتلوا بيروت ولبنان وجعلوا شريعة الغاب هي الدستور والقوانين.
ثانياً، واجب على البطريرك الماروني أن يذكّر من يخالف الدستور ويقفل أبواب البرلمان بوجه انتخاب رئيس، أن الجمهورية المحترمة تحترم قوانينها ودستورها، وأن البرلمان هو بيت الدستور والقانون والديمقراطية العريقة، وأن على رئيس البرلمان احترام كل تلك القيم.
ثالثاً، ولإنعاش ذاكرة الجعفري وكل من يحرّكه ويدور في فلكه الممانع، بكركي هي لبنان ولبنان هو بكركي. بكركي صنعت مجد لبنان لأجل اللبنانيين جميعاً، المسيحيين والمسلمين، ولم تتحدَ يوماً فئة على حساب أخرى لتعمم لغة التهديد والتخوين والسلاح والاغتيالات، ولترهيب اللبنانيين وقتلهم وقتل بيروت. سيد بكركي مؤتمن على بلاده، وقيم بكركي الإنسانية والوطنية والأخلاقية والدينية تفرض عليها التحرك في كل الاتجاهات الممكنة لإنقاذ لبنان من آتون الاحتلال، ومن سلطة متعفنة متواطئة على الشعب، وصراخ بكركي على زمن الاحتلال السوري، وصلابة البطريرك التاريخي مار نصرالله بطرس صفير، أعاد الى لبنان كرامته المسلوبة، فكانت المساهم الأول في استقلاله وجلاء العسكر السوري المحتل عن أرضه.
لا تخرج بكركي من عباءة تلك القيم النبيلة. لبنان بلد العراقة والسلام والحلا والإنسان، وليس ترسانات عابرة في جسد الوطن لأجل أوطان الغرباء. بكركي هي ضمير هذه الأمة ووجدانها ولولا بكركي لما كان لبنان، فقط تذكّر… أو بالأحرى لا تتناسى يا شيخ.