كتبت جوزفين حبشي في “المسيرة” – العدد 1741
كما يرمز شهر آذار للربيع وبداية الحياة وعيد الأم، كذلك يرمز شهر حزيران لنضج الطبيعة و…عيد الأب. العالم كله يحتفل بهذه المناسبة والسينما أيضًا، فالأفلام التي دارت في فلك الأبوّة لا تُعدّ ولا تُحصى. عددنا لشهر حزيران مخصص سينمائيًا للأب، من خلال استعراض بعض من أهمّ تلك الأفلام التي تناولت علاقة الآباء بأبنائهم، منذ انطلاق السينما وحتى أيامنا هذه.
البداية مع السينما الصامتة ومع واحد من أشهر أفلام المخرج والكاتب والممثل شارلي شابلن The Kid الذي يعود تاريخه لأكثر من 100 عام، فهو صدر في الولايات المتحدة عام 1921. يبدأ الفيلم مع تخلّي أم عن طفلها الرضيع حتى لا يعيش حياتها البائسة، فيصل الطفل الى الصعلوك (شارلي شابلن) الذي يطلق عليه اسم جون، ويربيه على رغم فقره. يكبر جون ويصبح في سن الخامسة ويساعد الصعلوك بدوره من خلال رمي الحجارة على النوافذ حتى يقوم الصعلوك بإصلاحها. خلال هذه السنوات الخمس تصبح أم جون غنية وتبحث عن طفلها، فينفطر قلب الصعلوك الذي يضطر للتخلّي عنه.
عام 1948 قدم المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا فيلم “سارق الدراجةLadri di biciclette”، المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب الإيطالي لويجي بارتوليني. الفيلم مصنّف كواحد من أهم الأفلام في تاريخ السينما، ويروي رحلة أب فقير وابنه للبحث عن دراجة الأب المفقودة، التي تمثل عصَب حياته لأنها ضرورية له لإتمام عمله. ويسير الابن طيلة الفيلم وراء أبيه الذي يكاد لا يشعر بوجوده، خلال بحثه عن الدراجة في شوارع المدينة، إلى أن يلجأ لسرقة أخرى، فيحاول الابن أن يدافع عن أبيه من الضرب والركلات بجسده الضئيل.
أيضًا من إيطاليا، واحد من أجمل الأفلام وأكثرها تأثيرًا وملامسة للمشاعر الإنسانية والأبوية، وهو فيلم “الحياة جميلة” La vita è bella للمخرج والممثل وكاتب السيناريو روبرتو بينيني، من إنتاج 1997. يروي الفيلم قصة اليهودي الإيطالي غيدو أورفيتشي (روبيرتو بينيني)، الذي سيعتمد على خياله الخصب لتحويل الحياة جميلة في عيني ابنه الصغير داخل معسكر الاعتقال النازي. غيدو العبقري سيقنع ابنه أن المعتقل مجرّد لعبة عليهما أن يمارسا قوانينها. “الحياة جميلة” شريط ساحر عن تفاني الأب لإنقاذ طفولة ابنه، وقد فاز الفيلم بالجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي عام 1998، كما حصل على ثلاث جوائز أوسكار، من بينها جائزة أفضل فيلم بلغة أجنبية، وأفضل ممثل غير إنكليزي في دور أول لروبرتو بنيني.
شريط بنيني ذكرني أنا شخصيا بفيلم لبناني هو الرائع “غدي” (إنتاج 2013) عن قصة وبطولة لجورج خباز وإخراج لأمين درة، مع الإشارة أن لا وجه للشبه بينهما، و”غدي” غير مستوحى منه ولا متأثر به لا من قريب ولا من بعيد. في”الحياة جميلة” يحاول بنيني حماية ابنه من الحرب والعنصرية النازية ضد اليهود، من خلال جعله يعتقد بأن وجودهما في المعتقل هو مجرّد لعبة. في “غدي” أيضاً يحاول جورج خباز حماية ابنه الذي يعاني من تشوّهات جينية Trisomie، من الحرب التي يشنها عليه المجتمع الرافض لكل أنواع الاختلاف، وذلك من خلال ابتكاره “لعبة” أو فانتازيا سحرية ستوهم أهل الحي الذي يسكنه بأن ابنه ملاك. ملاك ليس كالصفة التي نطلقها عادة على كل الأولاد، بل ملاك بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي بجناحين لأنه رسول الله على الأرض ومهمّته مساعدة الناس على التوبة وعمل الخير، وفي المقابل هو مستعد لتلبية كل طلباتهم. بفخر يحتل “غدي” اللبناني مكانه ضمن لائحة الأفلام العالمية الخاصة بالأب، خصوصًا أنه فيلم إنساني وعائلي واجتماعي هادف ونظيف ومؤثر ومضحك في الوقت عينه، مشغول بحرفية عالية.
فيلمان آخران ضمن مجموعتنا “الأبوية”، أميركيان هذه المرة ولكن مخرجهما هو الإيطالي غابريل موشينو الذي لطالما امتازت أفلامه بتشريحها العلاقات الإنسانية العابقة بالمشاعر والانفعالات. الفيلمان هما Pursuit of Happiness وFathers and Daughters.
الأول فيلم دراما من نوع السيرة الذاتيّة ومن إنتاج 2006، ومن بطولة النجم ويل سميث، وقد شاركه التمثيل للمرة الأولى ابنه جايدن. الفيلم ملهم ومؤثر بواقعيته الشديدة وفلسفته الخاصة حول السعادة والتمسك بالأحلام وعدم الاستسلام، وهو مبنيٌ على قصّة حقيقيّة وهي قصّة كريستوفر غاردنر الذي يُحاوِل بشتّى الطرق توفير سُبُل الراحة لأسرته الصغيرة، ولكن الحياة ستقسو عليه ومصلحة الضرائب ستحجز حسابه المصرفي، وزوجته لن تتحمّل حياة الفقر فتتركه وحيدًا مع ابنه. بعد أن يتم طرد كريس من بيته، سيصبح مع ابنه بلا مأوى، وسيضطران للعيش في حمام من حمامات مترو الأنفاق. على رغم صعوبة الحياة، سيحاول كريس إخفاء وجعه عن ابنه، وسيتابع ممارسة أبوته بأجمل طريقة، وسيتابع دعم ابنه وإرشاده وتعليمه الكثير من الدروس الحياتية من خلال التجارب التي يمرون بها.
حقق Pursuit of Happiness نجاحًا تجاريًا كبيرًا ونالَ أيضًا استحسان النُقّاد، وفاز بعدد كبير من الجوائز، وتم ترشيح ويل سميث لجائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دوره فيه.
أما فيلم غابريل موشينو الثاني فهو Fathers and Daughters الذي يرتكز على فكرة هشاشة الحياة، فأكبر أزمة حياتية قد تنتهي بكلمة، وأهم حياة قد تنتهي بسقطة حصلت قضاء وقدر، والنهاية قد تباغتنا من حيث لا ندري، وبأكثر الطرق سخافة وعبثية. الفيلم عبارة عن قصتين متداخلتين بشكل متقن وذكي وغير تقليدي على رغم أن 25 سنة تفصل بينهما. القصة الأولى هي قصة جايك دايفيس (راسل كرو) الكاتب الموهوب والحائز على جائزة بوليتزر الذي يعاني مرضاً عصبياً يشبه الصرع. بعد موت زوجته، سيضطر جايك لدخول المستشفى والانفصال تاليًا عن ابنته الصغيرة كايتي (إيلي روجرز) التي يربطه بها حب عارم. كايتي ستبقى في عهدة خالتها الثرية (دايان كروغر) التي ستحاول تبنّيها وعدم إعادتها لوالدها من خلال رفع دعوى قضائية تستند الى عدم جدارته من الناحية الصحية. ولكن الوالد والابنة سيتمسكان ببعضهما البعض وسيواجهان الكثير من التحديات وسيقدمان لنا أجمل علاقة معجونة بالحنان والألم والتشبث الى أن تقول هشاشة الحياة كلمتها.
أما الثانية فهي قصة الأخصائية النفسية الشابة كايتي (أماندا سايفريد) التي تحاول مساعدة الأطفال على تخطّي مشاكلهم، ولكنها لم تستطع أن تتخلّص من ماضيها المأساوي وطفولتها المؤلمة. هي تخشى الارتباط خوفاً من الهجر، ولكنها ستقع في الحب ولن تحافظ عليه بسبب عقدها النفسية، وستعيش ضياعًا وغربة لن نستطيع فهمهما سوى في اللحظات الأخيرة من الفيلم التي تلّخص لنا هشاشة الحياة وأهمية العاطفة الأسرية…
الفيلم مؤثر جداً بعمقه ومناخه الحميمي وذكائه وابتعاده عن الكليشيه وترجمته لأهمية الحب والتضحية التي قد يقوم بها الأب من أجل ابنته على رغم الصعوبات. كما أنه يقدّس العلاقة التي تربط بين الآباء والأبناء والتي لا يمكن أن تُقدّر بأي ثمن مادي، ففي غياب أي من الآباء أو الأبناء، يخسر كلا الطرفين الأمان والاستقرار والانتماء.
تمسّك الآباء بأبنائهم نتابعه أيضًا من خلال فيلم آخر، لا يقلّ سحرًا وقوة وإثارة للمشاعر العميقة، هو I Am Sam الذي يناقش قضية هامة جدًا وهي: تربية الأطفال تكون بالعاطفة والقلب أم بالعقل والمنطق؟
فيلم “أنا سام” يروي علاقة أب لديه إعاقة ذهنية مع ابنته لوسي التي تركتها أمّها له ساعة ولادتها. في أحد مشاهد الفيلم، نرى لوسي وهي ترسم في المدرسة لوحة تمسك فيها يد أبيها وتبدو في اللوحة أطول وأكبر منه. من خلال الرسمة ستكتشف الأخصائية النفسية أنّ والد لوسي يعاني من إعاقة عقلية، فعقله عقل طفل في السابعة من عمره ليس أكثر. عندها ستقرر إدارة حماية الطفل أخذها منه بحجة أنّ بقاءها معه سيؤذيها ويعيق تقدّمها، والبحث عن عائلة تتبنّاها. ولكن علاقة سام بابنته والعاطفة التي تجمعهما أكبر بكثير من العقل المحدود، وبمساعدة المحامية (ميشيل بفيفر) سيحارب الأب والابنة للبقاء معًا. فيلم درامي رائع ومؤثر جدًا من إنتاج 2001، من إخراج جيسي نيلسون ومن كتابة كريستين جونسون. البطولة للممثل شون بن الذي رُشِح لجائزة أوسكار، تمامًا مثل الممثلة الصغيرة داكوتا فانينغ التي كانت في السابعة من عمرها أثناء تصوير الفيلم، فأطلق الفيلم مسيرتها الفنية بقوة، وهي أصغر ممثلة يتم ترشيحها لجائزة نقابة ممثلي الشاشة Screen Actors Guild Award.
من ضمن الأفلام اللافتة أيضًا في خانة “أفلام الأب” شريط Big Fish، وهو دراما فانتيزية من إنتاج 2003، عن سيناريو لجون أوغست وإخراج لتيم برتون. الفيلم من بطولة إيوان مكريغير، وهيلينا بونهام كارتر، وداني ديفيتو، ويروي قصة ويل بلوم الذي سيعود إلى عائلته في ولاية ألاباما، عندما سيكتشف أن والده إدوارد الذي لا يتكلم معه منذ عدة أعوام، مصاب بمرض خطير. ويل سيتعرّف أكثر على والده الذي سيروي له وبطريقته الخاصة قصة حياته العجيبة والمليئة بالأحداث المشوّقة. حيث حاز هذا الفيلم على 4 ترشيحات غولدن غلوب وترشيح لجائزة الأوسكار.
الختام عالميًا سيكون مع شريط رائع من إنتاج 2020 بعنوان The Father، وهو من النوع الدرامي المؤثر، عن سيناريو وإخراج للفرنسي فلوريان زيلر. “الأب” من بطولة أنتوني هوبكينز الذي فاز بأوسكار أفضل ممثل عن أدائه الرائع لشخصية والد مسنّ عليه أن يتعامل مع مرض الزهايمر. يروي الفيلم قصة المهندس المسنّ أنتوني الذي يعيش مع ابنته آن (أوليفيا كولمان التي رُشّحت لأوسكار أفضل ممثلة في دور مساند) في شقة في لندن. آن ترغب بالانتقال الى باريس للإقامة مع حبيبها، ولكنها تقلق من فكرة ترك والدها لأنه بدأ يعاني من مرض الزهايمر. أحياناً يكون على ما يرام تمامًا، لكن في أحيان أخرى لا يعرف من هي. تقرر آن الاستعانة بممرضة (إيموجين بوتس) لرعايته.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]