“التسكيج” والإهمال كادا يطيّران “داتا” بلدية بيروت

حجم الخط

 

 

سنوات من الأرشيف تبخّرت فهل استُعيدت كلّها؟

يوم الرابع من أيار الماضي، إستفاق أهالي بيروت على خبر «فقدان داتا» بلديّتهم بسبب عطل طارئ في جهاز المكننة داخلها. وما أدراكم ما تلك الداتا. من معلومات المواطنين والموظفين وجداول الرسوم المدفوعة والمستحقّة إلى تفاصيل المعاملات ورواتب الموظفين وما بينها. التحذيرات راحت تتوالى منذ العام 2020 من خطر فقدان الداتا. وهي اليوم في مهبّ الريح. فماذا في الكواليس ومن يضمن صحة المعلومات التي أعيد إدخالها يدوياً؟ هل تقف مصالح خفية وراء «تطيير» الداتا وكيف للبيروتي أن يستعيد ثقته ببلديّته في ظلّ غياب أي تحقيق تقني شفّاف حتى الساعة؟ أسئلة بالجملة.

 

في عودة سريعة إلى الوراء، وتحديداً إلى تاريخ 03/07/2020، توجّهت المحلّلة سكينة باز – المسؤولة في حينه عن دائرة المكننة – بكتاب عاجل جداً إلى محافظ بلدية بيروت، القاضي مروان عبود، تشير فيه إلى عدم إمكانية الاستمرار بالعمل في ظل الانقطاع المتكرّر للتيار الكهربائي لما لذلك من تأثير على أجهزة الـUPS والـData Center. وممّا جاء في الكتاب: «إننا نرفع المسؤولية عنا في حال تعطّل أي تجهيزات أخرى، ونأمل من سعادتكم الإيعاز لِمَن يلزم لمعالجة المشاكل المذكورة». باز شرحت في كتابها أن الغرفة الرئيسية للـData Center، والموجودة في مبنى البلدية رقم 2، تتأثر بشكل مباشر بالانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي محذّرة من الأضرار التي يمكن أن تلحق بكافة الأجهزة مستقبلاً في حال لم تتم معالجة الموضوع جدّياً.

 

يومها أيضاً، قامت باز بتعداد الأعطال الحاصلة: تعطّل جهازي UPS من أصل ثلاثة في الغرفة التي تغذّي الـData Center بسبب استنفاد طاقتها والحرارة المرتفعة في الغرفة جرّاء تعطّل مكيّفات الهواء؛ أعطال في عدد كبير من البطاريات؛ وكون تجهيزات الـData Center على وشك التعطّل ما سيؤدّي إلى فقدان بعض المعلومات. ردّ المحافظ جاء في 09/09/2020، مبنيّاً على إفادة المهندس سعد الدين الحلبي، بتشغيل الـData Center مباشرة من «كهرباء الدولة» أو من المولّد الكهربائي. فما كان من باز إلّا أن أرسلت كتاباً عاجلاً آخر تحذّر فيه من خطورة هذه العملية كون المعدّات حسّاسة للغاية – بشهادة الشركة التي قامت بتركيبها – مطالبة بحظر تشغيلها إلّا من خلال الـUPS، منعاً لأي صدمات أو تغيّر مفاجئ في قوة التيار الكهربائي. وبخلاف ذلك، قاعدة البيانات (Data Base) الخاصة ببلدية بيروت تصبح على المحكّ.

لا علاقة للبلدية؟

 

واستمرّت التحذيرات لتتصاعد وتيرتها في الأشهر السبعة الأخيرة، لكن أحداً لم يحرّك ساكناً. نتوجّه بالسؤال حيال ما حصل إلى رئيس المجلس البلدي لمدينة بيروت، المهندس جمال عيتاني، فيجيب: «إن السلطة التنفيذية هي في يد محافظ بيروت، القاضي عبود، والموظفون المسؤولون عن داتا المعلومات يتبعون له مباشرة. لقد كنّا على تواصل دائم مع المحافظ الذي طلب منا شراء المعدّات اللازمة للقيام بعملية النسخ الاحتياطي (Backup) من أجل استرجاع الداتا وحفظها، كما قام بإحضار شركة خاصة لهذا الغرض». لغاية الآن، تمّ استرجاع كامل الداتا العائدة إلى ما قبل العام 2023. أما داتا الأشهر الستة الأخيرة، والتي لم يجرِ نسخها منذ بداية العام الحالي، فقد أُدخلت يدوياً بعد أن قام أكثر من موظف بمراقبتها لغرض مطابقتها مع المعاملات. أما في ما خص الرسوم والرخص، فقد جرى التنسيق مع دائرة الهندسة من أجل استعادة المعلومات ذات الصلة. وبحسب عيتاني، يُتوقّع أن تنتهي إجراءات الإدخال ما سيسمح بعودة العمل إلى طبيعته ابتداء من اليوم.

 

جيّد. لكن هل من المنطقي ألا تقوم بلدية بحجم بلدية بيروت، وبما لها من إمكانيات مادية وتقنية، باتّخاذ الاحتياطات اللازمة لحفظ الداتا؟ وأين ذهبت التحذيرات المستمرة منذ العام 2020 حول تأثير انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرّر عن الأجهزة والمعدات في غرفة الداتا سنتر؟ «كل ما يمكننا قوله هو أننا قمنا، كمجلس بلدي، بما يلزم للحفاظ على الداتا، لكن التنفيذ على الأرض ليس من مسؤوليتنا. لذا طالبنا بفتح تحقيق لمعرفة ما إذا كان هناك تقصير من قِبَل جهة معيّنة واتخاذ كامل الإجراءات لمعرفة الأسباب التي أدّت إلى ما حصل تفادياً لتكراره»، يضيف عيتاني. هو، للأمانة، لم ينفِ أن هناك احتياطات وتدابير كان يجب أن تُتّخذ لكن ذلك لم يحصل. أما إن كان ما آلت إليه الأمور مقصوداً أم غير مقصود، فهذا ما سيظهره التحقيق في الأيام القليلة المقبلة.

 

صدفة…

 

 

حاولنا على مدار يومين التواصل مع المحافظ عبود لاستمزاج رأيه بخصوص الكتب أعلاه وتحويلها إلى البلدية من عدمه. لكن لم نُفلح. فكانت محطتنا التالية مع رئيسة لجنة المكننة والتحوّل الرقمي في البلدية، هدى قصقص. وقد أسفت في اتصال مع «نداء الوطن» لأن يكون الوضع التقني داخل غرفة الـServer وكل ما يحيط بها مشابهاً لواقع مبنى البلدية بعد انفجار مرفأ بيروت. «قبل الثورة بيومين، قمنا بتحديث دائرة المكننة لكن انفجار المرفأ تسبّب في الكثير من الأضرار التي تمّت معالجتها بالـ»تسكيج» على الطريقة اللبنانية. فالاهتراء موجود في كل مكان داخل البلدية من أبواب إلى إمدادات كهربائية ومكيّفات وغيرها». نسمع أن غياب التمويل وصعوبة إجراء المناقصات في ظلّ تدهور قيمة العملة حالا دون القيام بأي إصلاح أو تطوير، لا سيّما في ما يتعلّق بأجهزة الكومبيوتر والمعدات التابعة لها. ثم إن قصقص تنفي حصولها شخصياً أو المجلس البلدي على أي رسالة أو تقرير خطي من المحافظة يفيد بوجود خطر على المعدّات. فقد أشارت إلى أن المجلس كان على بيّنة من ضرورة الاهتمام بموضوع الكهرباء وأجهزة الـUPS وغير ذلك، لما لإهمالها من تداعيات سلبية مستقبلية. وتعود وتلقي باللائمة على نقص الموارد البشرية والمتخصّصين كما غياب التقارير الدورية التي كانت تُطلب دوماً من المحافظة إنما دون جدوى.

 

«نحن، كسلطة تقريرية لا يحق لنا التدخّل أو التحرّك إلّا بموجب كتاب من السلطة التنفيذية (أي المحافظة). هذا على الرغم من قناعتي، على الصعيد الشخصي، بأننا نتحمّل المسؤولية في مكان ما ولا يمكننا القول «ما خَصْنا». التقصير موجود كما هي الحال في كل شيء آخر في البلد، لكن معوّقات الإصلاح كثيرة»، كما تكمل قصقص. وتخبرنا أيضاً أنها قامت شخصياً بإرسال تقرير إلى محافظ بيروت تطلب فيه تحديد الأسباب التي كانت وراء ما حصل والخطوات التي يجب اتّباعها لعدم تكرار الموضوع، لا سيّما أن المجلس البلدي لم يحصل على أي تقرير من المحافظة بعكس ما يشاع في الإعلام. وفي خضمّ السلبية التي تحيط بالمسألة، كشفت عن «بشرى سارة» تتعلّق بالمكننة والأجهزة والمعدّات، تمّ العمل عليها منذ سنة وتسعة أشهر وأصبحت جاهزة للإطلاق، غير مستبعدة ألا يكون ما حصل من قبيل الصدفة. «هناك من لا يتمنى الخير ويعمل على فتح الأبواب على موضوع المكننة أو «يُحرتِق» بهذه الطريقة لأن ما يحصل مؤخراً من أعطال – ربما تكون مقصودة – لم يعد من باب الصدفة. على أي حال، نسعى إلى عزل المكننة والأجهزة عن هذه المشاكل، لكن ما زلنا بانتظار تقرير المحافظ. لقد تمكّنّا من الحصول على هبة بقيمة 45 ألف دولار نستلمها الشهر المقبل ستُستخدَم لتشغيل النظام الجديد».

 

(لا) ثقة

 

بعد كل ما تقدّم، ماذا لدى نقيب المعلوماتية والتكنولوجيا في لبنان، جورج خويري، ليقوله؟ في اتصال مع «نداء الوطن» اعتبر أن أي مؤسسة صغيرة مؤلّفة من أربعة أشخاص – لا أكثر – تلجأ اليوم إلى أسلوب النسخ الاحتياطي. فكيف بالحري لو ارتبط الأمر ببلدية تملك دائرة مكننة بكاملها مسؤولة عن كل ما يختصّ بالداتا وحفظها: «كان من الممكن النسخ على خدمة التخزين السحابية (iCloud) أو على محرّك أقراص خارجي (External Hard Disk) أو حتى اللجوء إلى خدمة التعافي من الكوارث (Disaster Recovery) وحوكمة تقنية المعلومات (IT Governance). فقد كان من شأن ذلك المساهمة في تخزين البيانات والاحتفاظ بها وتوقّع الكوارث التكنولوجية ومعالجتها وإدارتها بشكل فعّال، تجنّباً لما حصل».

 

 

خويري استغرب عدم نسخ المعلومات لأشهر داخل البلدية. وأكّد أن لا معلومات دقيقة حتى الساعة تفسّر ما حصل تحديداً في داتا المعلومات، وأن كل ما يُقال يبقى في خانة التقديرات. من هنا، وارتكازاً على حق الوصول إلى المعلومات، طالب بفتح تحقيق تقني شفّاف بواسطة خبراء محترفين لا جهات حكومية. «إن كان ما حصل عن طريق الخطأ، فذلك يُعتبر كارثياً في بلدية بحجم بلدية بيروت في أرشيفها معلومات حسّاسة وخطيرة، في حين أن من حق المواطن أن تُحفظ معلوماته بصورة دقيقة وموثوق منها». على أي حال، وأياً كان السبب (أو الأسباب)، من انقطاع متكرّر للتيار الكهربائي إلى المحو عمداً أو سهواً، فلكل مشكلة تقنية حلّ. لكن، من يسترجع ثقة اللبناني بالتحوّل الرقمي (Digital Transformation) وبخصوصية البيانات (Data Privacy) وحمايتها (Data Protection)؟ «إن لم نثق ببلدية بيروت، فبأي بلدية نثق بعد اليوم»؟ يتساءل خويري. صدفة أو عن سابق تصميم، ثمة أسئلة كثيرة مشروعة. وعلى رأسها ما يطرحه متابعون حيال ما أُدخل يدوياً من معلومات التحصيل والجباية للأشهر الستة الأخيرة. أغلب الظن أن الكلام لن ينتهي عند هذا الحدّ.

المصدر:
نداء الوطن

خبر عاجل