بات واضحاً أن التحقيقات الأوروبية في ملف حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، فضحت المستور، وأظهرت تورط مجموعة كبيرة من السياسيين في هذه القضية. فالحاكم هو الصندوق الأسود، وفي جعبته الكثير من أسرار وخبايا هذه المنظومة الحاكمة، التي تعاونت معه واستفادت من مركزه لتمرير صفقاتها.
الحقيقة التي صارت مكشوفة أمام الجميع، السلطة السياسية تدافع بشراسة عن الحاكم، واستخدمت كل نفوذها لحمايته، لأنها ببساطة خائفة من أن ينفجر هذا الصندوق ويفضح تورطهم. في المقابل، لم يفوت الحاكم أي فرصة في مقابلاته التلفزيونية ليطالب بملاحقة أركان السلطة السياسية عوضاً عنه.
يعلم سلامة جيداً أن ابتزاز هذه السلطة السياسية هو الحل الوحيد لحمايته من الملاحقة القضائية في لبنان وأوروبا، وهو ما حصل تماماً.
وما عرضناه أعلاه، صار مكشوفاً أمام القضاء الأوروبي، الذي يدرك تماماً أن لحظة سقوط الحاكم، ستظهر كل الحقائق والخبايا والألاعيب التي جرت طوال العقود الماضية داخل المصرف المركزي، والتي أدت إلى انهيار الاقتصاد اللبناني وافلاس المصارف وسرقة الودائع.
من أجل ذلك، وصف المحامي الفرنسي ويليام بوردون السلطة السياسية بعبارة واحدة فقط، قائلاً: “كلمة المافيا تنطبق على هذه السلطة السياسية اللبنانية، وملف الحاكم لن يكون الملف الأخير في فرنسا، فالتحقيقات أظهرت تورط أسماء سياسية بارزة في لبنان في قضيته، وسيتم الادعاء عليهم وملاحقتهم”.
بوردون هو مؤسس منظمة sherpa، التي تقدمت بدعوى أمام المدعي العام الفرنسي ثم في لوكسمبورغ لاستعادة حق الدولة اللبنانية من أموال سلامة في أوروبا. بعد تعاون جمعها بنقابة المحامين في بيروت التي كلفت لجنة عام 2020 لمحاولة إيصال شكاوى ومطالب المودعين بسبب مصادرة أموالهم، وبعد أن تواصلت نقابة المحامين مع مكتب قانوني في سويسرا وآخر في فرنسا، تبيّن أنه تم تقديم شكوى في أوروبا عبر مجموعة من المغتربين اللبنانيين والمودعين الفرنسيين من المتضررين من إجراءات المصارف التي اتخذتها عام 2019. ومن بعدها، انضمت هيئة القضايا في وزارة العدل إلى هذه الدعوى وعينت أيضاً محاميين لمتابعة حق الدولة اللبنانية من أموال سلامة.
في واقع الأمر، قُدمت الشكاوى أمام المدعي العام المالي الفرنسي، وجرى الادعاء على الحاكم وشقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويك، ومجموعة من الأسماء البارزة التي أظهرت التحقيقات تورطهم معهم، واتهموا بجرائم تبييض الأموال والتواطؤ، الغش وممارسات تجارية مضللة، تأليف جمعية أشرار، الإثراء غير المشروع..”.
ما عرضه بوردون أتى خلال كلمته في مؤتمر نظمته نقابة المحامين يوم الأربعاء، 21 حزيران، في بيت المحامي، تحت عنوان “الإجراءات القانونية لحماية الحقوق والمصالح المالية للدولة اللبنانية”.
ففي الرابع من تموز المقبل، ستصدر محكمة الاستئناف في باريس قرارها بشأن قانونية عملية الحجز على عقارات وأموال حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة في أوروبا. وحتى صدور هذا القرار، ستكون الدولة اللبنانية أمام مسارين مختلفين، ربح الدعوى أو خسارتها.
عملياً، هذه الدعوى ستمر بعدة مراحل، والمسار سيكون طويلاً، فالخطوة الأولى بدأت بتجميع المعلومات والوثائق الرسمية التي قدمت للقضاء الفرنسي، والخطوة الثانية هي حجز الأموال، ثم مصادرتها، ومن ثم استردادها إلى لبنان حين تربح الدولة اللبنانية الدعوى.
أما السيناريو المتوقع إن جاء القرار لمصلحة الدولة اللبنانية، سيحدد مبلغاً من أموال سلامة للدولة اللبنانية، وحينها يتوجب على الدولة اللبنانية التعاون مع القضاء الفرنسي من أجل ضمانة عودة هذه الأموال إلى لبنان.
وأخطر ما في هذا الأمر، أن عدم إظهار الدولة اللبنانية جديتها في التعاطي مع فرنسا بعد الرابع من تموز، سيؤدي إلى صعوبة استرداد المال، حتى وإن كان الحكم لصالح الدولة اللبنانية. مما يعني أن الأسئلة التي يجب أن تُطرح على الدولة اللبنانية اليوم، والتي من المفترض أن تكون الإجابات جاهزة هي: من سيستلم هذه الأموال؟ كيف سيتم وضعها وأين؟ كيف ستقسم؟ من سيتولى هذه المهمة؟ وهل سيحصل أصحاب الودائع على جزء من هذا المبلغ؟ خصوصاً أن مضمون دعوى بوردون هو تأمين حق المودعين من أموال سلامة. أي أن هدف هذه الدعوى هي تعويض أصحاب الودائع عن أموالهم المسروقة. فهل ستوافق السلطة السياسية على هذا الأمر؟
وكل الخوف من أن تتدخل السلطة السياسية في مصير هذه الأموال، أو أن تتم سرقتها، أو أن يُحول حق الدولة اللبنانية بطريقة غير مباشرة لعائلة سلامة. والسيناريو الأسوأ هو تأجيل فرنسا استرداد هذه الأموال في حال لم تظهر الدولة اللبنانية جديتها في هذه القضية، وبالتالي سيسقط حقها من أموال سلامة مع مرور الزمن، وسيبقى المال في أوروبا.
في النتيجة، القضاء الأوروبي سيستمر في ملاحقة كل متورط في قضية الحاكم، ولحظة انتهاء التحقيقات، ستكشف أسرار هذا الصندوق الأسود وسيلاحق كل متورط معه.