كتبت نجاح بومنصف في “المسيرة” – العدد 1741
ما كان شعرًا يوم صدح ذاك العملاق الكبير “لبنان يا قطعة سما عالأرض تاني ما إلا”، هذا ما كأنه لبنان حقاً وأكثر.. كان ذلك على مدى عقدين، عصرًا ذهبيًا تمدّد ازدهاراً وعزاً، ما كان قبله ولا بعده عزّ، لبنان قبلة العالم، شرقاً وغرباً، شعلة أضواء وحكايات أمجاد كرّسته “جنّة المتوسط” سياحة واصطيافاً وازدهاراً وفنوناً، والعالم يتدفق، ملوك ورؤساء وأمراء وسيّاح من كل حدب وصوب، الكل إليه يهرع جذلا مبهورًا، متفاخرًا بأن يكون شاهدًا مشاركاً في فرح ذاك العرس، عرس السفر الى لبنان، وما كان قليلاً أن يحمل شرف لقب سائح زار بلاد الأرز…
نعم صدّقوا… كان ذلك في أجمل الأزمان، يوم تُوِّج لبنان “سويسرا الشرق” بلا منازع… كيف كان له ذلك؟ كيف كان لتلك “الأسطورة” أن تهوي من أعلى القمة إلى قعر الهاوية؟
هم المستشرقون والعلماء والشعراء الأوروبيون، وبينهم ألفونس دو لامارتين وإرنست رينان وفيكتور جويرين، من فتح أعين العالم على إرث تاريخي ثقافي حضاري كبير يكتنزه بلدنا الصغير. أتى هؤلاء لبنان في القرن التاسع عشر ليجدوا أمامهم بلدا أشبه بـ”فسيفساء” غريبة رسمتها حضارات مختلفة عايشها عبر العصور وكرّسته من أغنى البلدان ثقافياً، لما يجمعه من المعالم الشرقية والغربية، من مستوطنات بشرية تعود للعصر الحجري، إلى مدن ودويلات فينيقية، الى معابد رومانية ومناسك وكهوف محفورة في الجبال، فإلى تلك القلاع الباهرة والحصون البيزنطية والصليبية، الى الكنائس والمساجد التاريخية والحمامات العامة العثمانية…
في عوالم كنوز لبنان التاريخية والثقافية تلك، غاص هؤلاء، زاروا معالمه الأثرية، تعرّفوا الى تقاليده، شاركوا احتفالاته الدينية وحجّوا إلى بعض أماكنه المقدسة، اندهشوا أمام روعة ما عايشوه، وسجلوا كل ما رأته أعينهم، كتابة ورسمًا وتأريخًا.. وذاع صيت لبنان عبر العالم، بلد التاريخ والحضارات والآثار، لتُنسج أولى خيوط حكايته مع مسار طويل، صار لنا اليوم أشبه بأسطورة، عن عهد لبنان الذهبي مع السياحة والسيّاح، كرّسته حقاً “سويسرا الشرق” بلا منازع لعقود وعقود، قبل أن تبدأ رحلة ذاك السقوط الكبير.
شمعون والعهد الذهبي
هو التاريخ يشهد على عصر ذهبي عايشه لبنان كرّسه قبلة الشرق والغرب، سياحة، اقتصادًا، إنماءً وإعمارًا، رخاءً وبحبوحة، فناً وثقافة وإشعاعًا حضاريًا. وهو التاريخ يسجل أيضًا أن ذاك العزّ سيبقى ممهورًا بعهد الرئيس الثاني لعهد الاستقلال كميل نمر شمعون، معه وبه انطلق وترسّخ ليصبح لبنان وبيروته، خلاله وبعده، غير ما قبله، هي مجلّدات كتبت، مغمسة بالإبهار والحنين والذكريات عاجزة عن وصف ما كان، يوم صار لبنان منارة هذا الشرق.
ما الذي فعله ذاك الكاريزماتي الساحر ببلادنا؟
فعل الكثير الكثير، كل ما لم يفعله فاسدو عهود أيامنا، مكتفين بـ”إنجاز” يتيم، إفساد وإبادة كل ما أنجزه ذاك “النمر”.
فعلى رغم الظروف السياسية الصعبة التي رافقت عهد كميل شمعون والاضطرابات التي كانت تعيشها المنطقة والدول العربية آنذاك، شهد لبنان في تلك المرحلة استقراراً أمنياً وسياسياً، وما كان هناك من “يحشرنا” في حروب الآخرين ويجتذبها الى أرضنا، لا بل كان هناك من يحيّدنا عنها ومن يستثمرها لإعمار وازدهار بلادنا، وهذا ما فعله رئيس جمهوريتنا آنذاك. فوسط الاضطرابات الإقليمية تلك، شكّل لبنان واحة أمان مالي ومعيشي، وأيضًا مقصدًا للهاربين من صيف الصحراء إلى “جنّة” لبنان وعاصمته المتألقة، وبدهائه الشهير، ما تأخر شمعون في تلقف حاجة العرب الى لبنان، فاستثمرها حتى الثمالة، مخططاً ومنفذاً لجمهورية قوية، فكان له ما أراد، ولنا أبعد من الخيال، ناقلاً لبنان معه الى جمهورية جديدة متألقة الازدهار، أرست لعهد سياحي جديد غير مسبوق مجتذبة الى بلادنا ملايين السيّاح من مختلف أقطار العالم مكرّسة لبنان قبلة الشرق والغرب، وموطئاً لرؤساء وملوك وأمراء ونجوم ومشاهير العالم، ليُتوَّج لبنان على أنه “سويسرا الشرق”.
خطة شمعون بدت كأذرع أخطبوط تعمل بكل الاتجاهات لتصبّ بجسم واحد، ازدهار لبنان، شجع قيام الفنادق ومراكز الترفيه، فاتحًا بذلك الباب واسعًا أمام المستثمرين، لتبدأ سلاسل أشهر الفنادق العالمية بافتتاح فروع لها في بيروت. وعلى خط مواز، نشطت المصارف وبات النقد الوطني ذا ثقة وقيمة عاليتين لا تهزهما الأزمات، وعرف المستوى المعيشي نموًا وضع اللبنانيين بين الشعوب الأعلى دخلًا في العالم.
ولما كان عدد من دول المنطقة يشهد توتراً أمنياً وانقلابات سياسية، اندفع بعض المستثمرين العرب إلى تحويل أموالهم إلى لبنان هرباً من التأميم، لما كان يتميّز به لبنان من اقتصاد حر، وقطاع مصرفي نوعي. وبهذا ساهمت الفورة النفطية في دول الخليج العربي في ضخ رساميل ضخمة في السوق اللبناني، فشهد فترة ازدهار اقتصادية، وفورة عقارية وعمرانية، ونظاماً خدماتياً قوياً.
هذه الظروف اجتذبت رؤوس الأموال ورجال الأعمال والسيّاح الأجانب والعرب، وشجعت رجال الأعمال اللبنانيين للاستثمار في مشاريع سياحية ضخمة كان بينهم نجيب صالحة الذي أطلق أحد أضخم المشاريع السياحية آنذاك، فأسس شركة الفنادق اللبنانية الكبرى العام 1953 برأس مال بلغ خمسة ملايين ليرة، في شراكة مع يوسف بيدس وخليل صحناوي ونقولا بسترس. كما بوشر ببناء فندق “فينيسيا” الشهير في العام 1955.
ساهم كل ذلك في خلق فرص عمل وفورة سياحية أدت إلى زيادة واردات الخزينة ورفع مستوى الدخل الوطني، واستطرادا الدخل الفردي. وبدأت القطاعات بتنظيم نفسها وبالتوسّع أكثر وزيادة كفاءتها، وسرعان ما انعكس ذلك نموًا وازدهارًا كبيرين لعالم الملاهي والمطاعم والفنادق.
ملوك ورؤساء العالم في بيروت
والى ذلك ثمة استثمار آخر استخدمه شمعون لرفع منسوب السياحة الى لبنان، هي علاقاته الدولية وإرادته بجعل لبنان بلدًا منفتحًا على العالم، محوّلا لبنان الى بلد يؤمه ملوك ورؤساء العرب والعالم، فاشتهر عهده بتلك الاستقبالات الكبيرة التي كان ينظمها غالبًا في قصر بيت الدين لضيوفه الكبار، وبينهم الملك السعودي سعود بن عبد العزيز، وشاه إيران وزوجته الملكة ثريا، وملك النروج والعاهل الأردني الراحل الملك حسين وزوجته، وكانت استقبالات كبيرة باللباس الرسمي، تألّق فيها الرئيس بأناقته الإنكليزية الى جانب زوجته الجميلة والأنيقة، التي كان لها الدور الكبير جدًا في إرساء خطة زوجها الرئيس ثقافيًا وسياحيًا.
مهرجانات بعلبك ومواسم العزّ
وعلى عهد ذاك الثنائي الرئاسي الباهر، شهد الفن اللبناني بكافة أنواعه وثبة غير مسبوقة رفعت لبنان إلى مصاف الدول العريقة بحضارتها، المتميّزة برقيها، مسجلاً ازدهارا ثقافيًا كبيرًا على صعيد المسرح والشعر والسينما والموسيقى، ليُتوَّج بحدث ثقافي فني كبير، تمثل بإطلاق مهرجانات بعلبك الدولية.
كان ذلك في العام 1957 حين أعلن شمعون رسميًا افتتاح مهرجان بعلبك، مسجّلاً أوّل ظاهرة فنية ثقافية عرفها لبنان بهذا المستوى، ومفتتحاً بذلك مواسم عزّ لمهرجان لبناني دولي كبير افترش قلعة بعلبك التاريخية محوّلاً معبدي جوبيتر وباخوس الى مسرح كبير احتضن أروع الأعمال الفنية مجتذبا إليه أهم الفرق الفنية العالمية ومشاهير عالم الغناء الغربي والعربي، وطبعًا تلك الليالي اللبنانية مع نجوم لبنان، فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين، مهرجانات لا زالت راسخة في البال، ولو كان لحجارة تلك القلعة أن تنطق لحكت الكثير الكثير عما قدمته من إبداع وفن وإبهار اجتذبت إليها آلاف السياح العرب والأجانب، كانوا يقصدون لبنان خصيصًا لحضورها، لتتوسّع بتأثيرها رقعة سياحة المهرجانات اللبنانية وتتمدّد الى قلاع وقصور أثرية في مختلف أنحاء لبنان، من قصر بيت الدين الى قلعة جبيل فصيدا وصور وغيرها وغيرها… وكان للبنان معها حكاية عزّ جديدة ما كان قبلها ولا بعدها.. والسيّاح يتدفقون.
وكان كازينو لبنان
نعم هي أيام العز والرخاء والازدهار، هكذا يتذكرها أجيال الخمسينات والستينات بحنين وحسرة، لبنان سويسرا الشرق، لبنان الفن والحضارة والحرية، لبنان السياحة والاصطياف، لبنان السهر والمهرجانات، وأيضًا لبنان ألعاب الميسر، وقد انتشرت في مناطق الاصطياف كما في بعض فنادق بيروت وفقا لأذونات خاصة، لتشكل موردًا سياحيًا مهما اجتذب إليه السيّاح من كل الدول العربية المجاورة التي كانت قوانينها تحظّر هذه الألعاب، فكان لبنان القبلة السياحية الجاذبة لمحبي المقامرة وألعاب الميسر، محققا إيرادات سياحية هائلة.
بعد الارتفاع المطرد في عدد السيّاح والإقبال على ألعاب الترفيه، أصدر شمعون مرسومًا قضى بحصر ألعاب الميسر في كازينو لبنان من دون سواه.. لينطلق العمل على بنائه على أجمل موقع في خليج جونية. وضع شمعون حجر الأساس عام 1954، وكان افتتاحه على عهد الرئيس فؤاد شهاب ليرسّخ مكانته خلال سنوات قليلة كأول مركز ترفيهي في المنطقة وبين أفخر الكازينوهات وأشهر المعالم السياحية في الشرق الأوسط وفي العالم، وليشهد عهدًا ذهبيًا وشهرة كبيرة مكّنته من استقطاب أشهر الفنانين العالميين والعرب، وليصبح اسمه مرادفاً لأفضل كازينوهات الألعاب والتسلية، جاذبا إليه ملايين السيّاح من مختلف أنحاء العالم.
ففي مطلع الستينات تهافتت أشهر الفرق الاستعراضية من أوروبا وأميركا لتقديم عروض ضخمة “تقطع الانفاس” على خشبتي كازينو لبنان، وعلى مر عقود وقفت سلسلة لا تنتهي من كبار نجوم العالم لإحياء حفلات طنطنت لضخامتها صحافة الشرق والغرب من داليدا، شارل أزنافور، خوليو إيغليسياس، جاك بريل، جيلبير بيكو، شارلز ترينيت، داني توماس، أدامو، جوني هاليداي، فإلى أجمل السهرات مع نجوم العالم العربي، ومن ينسى حفلات فريد الأطرش واستعراضات نجمات الرقص الشرقي تحية كاريوكا وساميا جمال ونجوى فؤاد، فإلى نجوم لبنان ومسرحيات الرحابنة وفيروز .
حفلات وسهرات اجتذبت إليها الملايين من متذوّقي الفن الراقي من الدول العربية ومن كل أنحاء العالم، فضلاً عن اللبنانيين الذين أظهروا تجاوبًا كبيرًا مع هذه العروض العالمية المبهرة والراقية.
سجاد أحمر وملوك وأمراء
والى الأضواء والاستعراضات ومباريات الجمال، لعب كازينو لبنان بين الستينات والسبعينات دورًا إنمائيًا، اقتصاديًا وسياسيًا لافتاً، حيث استقطب كبار الشخصيات المحلية والإقليمية والدولية آنذاك، وارتفع تأثيره ليفرض نفسه على الساحة المالية ويصبح حجر الزاوية في الاقتصاد اللبناني.
ويذكر قدامى الكازينو كيف كان يمد السجاد الأحمر لاستقبال العديد من الشخصيات العالمية البارزة بينهم العاهل الأردني الراحل الملك حسين، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، أمير موناكو ألبرت والنجم العالمي عمر الشريف وغيرهم الكثير.
ويُشار الى أن بين عامي 1962 و1974 بلغت إيرادات الكازينو 290 مليون ليرة لبنانية، وهو ما يمثل مبلغاً مرتفعًا جدًا بالنسبة لتلك الفترة. ليتحوّل بذلك الى ركن سياحي ومالي مهم جدًا للخزينة اللبنانية، حيث ساهمت عائداته في دعم خطة تسويق السياحة اللبنانية، والنهوض بالقطاع السياحي ومواسم الاصطياف.
وبفضل مال الكازينو ومن إيراداته، تم تأهيل قصر الأمير أمين ومغارة جعيتا، كما تم إنشاء مطعم في قلعة طرابلس، بالإضافة إلى افتتاح العشرات من مكاتب السياحة في لندن وباريس وروما.
جنة المتوسط!
كان لبنان آخر، كان أسطورة، تمدّد منارة إشعاع حضاري، منصة للصحافة الحرة ودور النشر والأدب والشعر والموسيقى والفن الرفيع. فعدا عن مناخه وطبيعته الخلابة، كان لبنان لزواره متعة سياحية لا شبيه لها، مطعّمة بعراقة التاريخ والحضارات من جهة، والمرح والترفيه من جهة أخرى، وهي أيضًا العادات والتقاليد اللبنانية، هي “روح” اللبناني العاشق للحياة والفرح، هي كرمه وضيافته، هي حياة السهر والليل، وأيضًا وأيضاً المطبخ اللبناني، من لقمة التبولة والكبة النية والحمص المتبل والمشاوي الى «أكلات ستي»، ولكم اجتذبت السيّاح الى موائد لبنان العامرة وانعشت مطاعمه وفنادقه، ليتمدّد معها المطبخ اللبناني الى دول العالم قاطبة.
وإن كان لبنان يُعدّ مقصدًا صيفيًا بالدرجة الأولى، فللسياحة الشتوية والتزلّج في منتجعاته قصة أخرى. فمن قمم الأرز حيث يشعر السائح “قديش السما صارت قريبة”، الى فاريا – عيون السيمان واللقلوق وصولاً الى فقرا وقناة باكيش فالزعرور، فلكم أسهب السيّاح، كما تقارير وصحف عربية وأجنبية، في وصف روعة تلك المنتجعات ومنحدراتها الثلجية، وروعة الإقامة في فنادقها وشاليهاتها التي أخذت بالانتشار مع ازدهار الحركة السياحية، مشكًلة موردًا ماليًا كبيرًا لسكان تلك المناطق، ولتسرد بدهشة كيف فقط في هذا البلد الصغير بإمكان السائح في شهر نيسان زيارة جباله التي لا تزال مكسوّة بالثلج الأبيض وممارسة هواية التزلج، وخلال أقلّ من ساعتين ارتياد شواطئه وممارسة السباحة أو العودة الى بيروت ، نعم الى بيروت، وما أدرى أجيال اليوم ما كانت عليه بيروت، واسألوا زوارها أيام زمان، وهم يحكون ويسهبون لكم كان الزمن جميلاً يوم كانت بيروت “ست الدنيا”.
الى بيروت.. “مدينة الآلهة”
ما أن تطأ أقدام زوار لبنان أرض مطاره، يستشعرون فورًا حضورًا مبهجًا، هو “روح” بيروت، “مدينة الآلهة” كما وصفها الفينيقيون قديماً… مدينة عجيبة غريبة تتلألأ على ضفاف المتوسط الرائع، تضج حياة ومرحًا وسهرًا، رقيًا وفنًا وثقافة، جمالاً ونجومًا، ما كانت بيروت لتنام لا ليلاً ولا نهارًا، وكيف لها أن تنام والعالم كله يتوافد الى أحضانها.
نعم كان الزمن جميلاً في بيروت، بين أحيائها وشوارعها وأسواقها، كان يتجول سوّاح عرب وأجانب، كما “أولاد البلد”، الى جانب كبار مشاهير السياسة والفن والمجتمع والصحافة وأهل الفكر والأدب، وكلّهم مغبوطون، فرحانون.. طبعًا فهم في بيروت.
في بيروت الستينات كنت لترى مارلون براندو وبريجيت باردو وغيرهما من أشهر نجوم هوليوود، وجهًا لوجه في شوارعها أو مقاهيها، وقد اعتادوا الإقامة غالبًا في نادي سان جورج لليخوت.
الى بيروت، كنت لترى سيّاحًا أجانب متجمعين حيث يعلو بشموخ السراي الكبير، ذاك الصرح الأثري العثماني الذي صار مركزًا لرئاسة مجلس وزراء لبنان، لينطلقوا منه الى مواقع بيروت الأثرية، وما أغناها، والتعرّف إلى عراقة تراثها وحكاياتها مع التاريخ والحضارات المتعاقبة.
حكايات السياحة ومطارح عزّها في كل بيروت لا تنتهي، سترى طيف ذكرياتها في بقايا فندق كان محطة بارزة للسيّاح والصحفيين الأجانب، هو “هوليداي إن” الذي كان يناطح السحاب بطوابقه الثلاثين، معانقاً مجموعة من الفنادق الفخمة الأخرى مثل فينيسيا وسان جورج ونادي ضباط الجيش اللبناني، قبل أن تحوّله الحرب الى متراسًا للقناصين وتتركه هيكلاً خاويًا بجدرانه المثقوبة بعد أن كان رمزًا لعصر ذهبي مر به لبنان.
كان زمن بيروت الجميل، وكان السيّاح يغزلون جيئة وذهابًا بين وسطها وكورنيشها وشوارعها وأسواقها الشهيرة، بين حاناتها ومقاهي “الزيتونة”، إمتداداً الى “فونتانا” عين المريسة، ولكم كان يحلو للسيّاح العرب السهر في “الكيت كات” والاستماع الى كارم محمود يغنّي “سمرا يا سمرا”، ومحمد جمال في ملهى “منصور”، يصدح “بمواويله”، وطروب التركية الأصل تغنّي وتتمايل عنجًا ودلالاً “عالكورنيش”، ولكم سالت الأقلام عن يوم غنّت كوكب الشرق أم كلثوم على مسرح “التياترو الكبير”.
الى بيروت تدفق السيّاح من مختلف أنحاء العالم ليجدوا في أرجائها متعة لا تنتهي، كانت لهم ذاك المزيج الرائع بين الشرق والغرب، ما صنّفها أكثر مدن الشرق الأوسط بزخًا سياحيًا، لتستحق بجدارة لقب “باريس الشرق” لما تتمتع به من مقوّمات سياحية هائلة، من منتجعات، وشواطئ وطبيعة خلّابة، ومراكز تسوق عالمية.
نعم كان الزمن جميلاً.. وكان شارع الحمراء، وجهة السيّاح المفضلة، يتناثرون بين مقاهيه المصطفة على جانبيه، نهارهم مقاهيهًا وأسواقها ومتاجرها الفاخرة، وليلهم صخب وسهر حتى طلوع الفجر ومسارح وصالات سينما تعرض أحدث وأضخم الإنتاجات السينمائية العالمية.
ما كان ذاك الشارع لينام في تلك الأيام، ليُطلق عليه باستحقاق لقب “شانزيليزيه” الشرق، ليله كما نهاره، حياة عزّ وأضواء لا تهدأ ولا تنطفئ، كان جوهرة بيروت وكان مسرح “البيكاديللي” جوهرة ذاك الشارع ولولب حركته، لا بل قل الدماء التي أحيته وجعلته الأكثر شهرة ليس في لبنان وحسب، لا بل في كل العالم، شهرة جعلت من ذاك المسرح قبلة السيّاح ونجوم العالم وأشهر فرقه الموسيقية والاستعراضية… فعلى ذاك المسرح “الأسطوري” الذي افتُتح عام 1965 بأوبريت أوركسترا فيينا العالمية، وقيل إنه بنجاحه الساحق تسبب بإقفال “التياترو الكبير” في منطقة الأسواق والأوبرا في البرج، عرضت روائع فيروز والرحابنة… وعلى خشبته، أطلت الفنانة العالمية داليدا تحيي جمهورها باللبناني “مسا الخير بيروت”، وفيروز وعاصي يصفقان في الصفوف الأمامية.. والسيّاح يتدفقون.
بيروت أفضل مدن السهر حول العالم
كان الزمن جميلاً، وكانت حياة السهر والسمر في لبنان الجاذب الأكبر لكل سائح لعيش أفضل تجربة في العالم على الإطلاق، فيما تصدّرت بيروت مرارًا وتكرارًا لائحة “أفضل 10 مدن للسّهر حول العالم”، ولا زالت في البال أسطورة وحلم كبير، هل يعود؟
“كنا نسهر في مهرجانات بعلبك، ونسبح في بيسين فندق فينيسيا في بيروت، ولا نفوّت حفلات عبد الحليم وفريد الأطرش وأم كلثوم على ضفاف بيسين عاليه”… ومن قال إن السياحة في لبنان كان عنوانها بيروت وكازينو لبنان وحسب؟!
“عروس المصايف” جنّنت السيّاح
من بيروت صعوداً نحو الحازمية وقبل الوصول الى ضهر البيدر.. هناك يركن “مثلث العزّ الذهبي” لعصر السياحة الخليجية في لبنان، عاليه وبحمدون وصوفر، مصايف وبيوت حجرية مكللة بالقرميد الأحمر “جنّنت” السيّاح الأجانب والعرب على حدٍ سواء، يوم كانت الأيام أيام عزّ وازدهار، وكانت عاليه تتلألأ عروسًا على مصايف لبنان، وكان صيفها لقاء كل العالم، ومقرًا لا بديل له لملوك وأمراء العرب، كل العرب، كانت لهم عاليه الموعد الحلو المنتظر مع حلول كل صيف، الى فنانين ومشاهير وتجار، الى رجال أعمال ومستثمرين استثمروا فيها وتهافتوا على بناء القصور وتملّك الفيلات الضخمة في رحابها، كلهم حطّوا رحالهم في ربوعها، وفي البال استجمام وترفيه.. لا بل في البال سهرات الصيف الكبير مع عمالقة ذاك الزمان في ذاك الكازينو الشهير “بيسين عاليه”.. ما قصة ذاك الكازينو؟
تقول الحكاية، إن عاليه لطالما اشتهرت بمرابعها الليلية وأيضًا بكازينوهاتها، الى أوتيلاتها “الدجاجة التي تبيض ذهباً”، والتي ضربت شهرتها عاليًا من “طانيوس” و”الجبيلي” الى “تام تام” وغيرها الكثير، وقد عزّز معظمها بصالات للحفلات الفنية وأيضًا لألعاب الميسر، وما كان كازينو لبنان أبصر النور بعد، لتستحق عاليه لقب “لاس فيغاس الشرق”، وكان “كازينو بيسين عاليه” يتربع في صدارتها، خصوصا أنه كان المقصد الترفيهي الصيفي المفضل لحكام وأثرياء ومشاهير، لكن مع إطلاق كازينو لبنان وحصر ألعاب الميسر في لبنان به، تحول بيسين عاليه نحو وظيفة جديدة، ليصبح مكانا لأضخم حفلات الصيف وأرقاها، وهنا بدأت حكاية جديدة لذاك الكازينو كما للاصطياف في عاليه…
سريعًا وطويلاً، تصدر بيسين عاليه المشهد الفني اللبناني متوّجا المسرح الأشهر للعالم العربي والأكثر استقطابا لكبار نجومه، عمالقة ذاك الزمان.. وكلهم مرّوا من هناك، أم كلثوم، فريد الأطرش، عبد الوهاب، عبد الحليم، عملاق لبنان وديع الصافي، صبوحتنا.. كان ذاك “البيسين” فقط للعمالقة، وصار “أيقونة” المسارح، شرارة عزّ وأضواء وأمجاد أشعلت عاليه وذاك الجبل وكل لبنان.. وعبثاً تنسى عاليه زمنه وعمالقة مرّوا على مسرحه، صنعوا مجده وأطلق مجدهم… وما اقتصرت علاقة هؤلاء بعاليه على إحياء الحفلات، إذ غالباً ما كانوا يمدّدون إقاماتهم للتمتع بطقسها المنعش صيفاً، لتضيق الفنادق التي يقيمون فيها بعشاقهم ومعجبيهم.
نعم كان الزمن خلابًا في لبنان، أشبه بأسطورة عمّت كل ربوعه، ساحلاً وجبلاً، لا تتسّع لحكايات عزّها مجلدات، عزّ وضعت الحروب والصراعات نهاياته، وتصدّت لنهوضه.. ويبقى في البال حنين وذكريات وذاك الحلم: هل يعود لبنان يوما “سويسرا الشرق”؟
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]