قرار ظاهره لوجستيّ مفاجئ… وباطنه إفادات “متعدّدة الجنسيات”
تطمينات وزير التربية، الدكتور عباس الحلبي، للّبنانيين منذ أيار الماضي بأن لا مشاكل تمويلية تحول دون إجراء الإمتحانات الرسمية لهذا العام لم تتوقّف. والإتّكال في ذلك كان على مساعدات «اليونيسيف» وغيرها من الجهات المانحة. لكن ما لم يكن متوقَّعاً هو إقرار مجلس الوزراء قبل يومين إلغاء الإمتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة (البريفيه) نتيجة صعوبات لوجستية أمنية تمنع إجراءها. قرار فاجأ الجميع، من ضمنهم وزير التربية نفسه بحسب ما قيل. فماذا إذاً في الكواليس، وهل نحن بإزاء تدبير يلامس حدود المغامرة في وقت لم يعد فيه القطاع التربوي يحتمل مغامرات من أي نوع كانت؟
بعض ممّا دار في الجلسة بداية. فقد حرص الوزير الحلبي خلال الجلسة على نقل وجهة نظر كل من المدارس الخاصة والمركز التربوي للبحوث والإنماء كما المديرية العامة للتربية ودائرة الامتحانات لناحية ضرورة إجراء الامتحانات الرسمية. إلا أن وزير الداخلية، بسام مولوي، كان حاسماً في ما لفت إليه من عدم توافر الإمكانات اللازمة لدى القوى الأمنية إضافة إلى صعوبات لوجستية تحول دون تأمين سلامة الامتحانات. الأسئلة مذّاك انهمرت – ولا تزال – من كل حدب وصوب. فهل يُعتبر قرار الإلغاء دستورياً في ظل حكومة تصريف الأعمال، وهل لقرار مماثل أن يؤخذ بهذه السرعة من دون استشارة المختصّين التربويين لما له من تداعيات على القطاع التعليمي ككلّ؟ أما إن كان السبب الكامن هو عدم توافر الإمكانات اللوجستية، كما ادّعى مولوي، ألم يكن من شأن هذه الأخيرة، منذ فترة وجيزة، تغطية الانتخابات البلدية على كامل الأراضي اللبنانية؟ والمزيد المزيد.
كفى إستخفافاً بالعقول
حاولنا التوجّه إلى وزير التربية بأسئلتنا. لكن، كما أُفِدنا، هو سيكتفي ببيان رسمي بعيداً عن التصاريح الصحافية والإعلامية. ننتقل إلى الخبير الدستوري، المحامي الدكتور عادل يمين، الذي شرح في حديث لـ»نداء الوطن» أن الشهادة المتوسطة مقرّة بقانون ولا تُلغى إلّا بقانون. «لكن، رغم ذلك، تقرّر في مجلس الوزراء عدم إجراء الامتحانات لهذا العام بذرائع واهية تتعلّق بمدى جهوزية القوى الأمنية، على نحو يتناقض مع ما كانت تعلنه دوماً وزارة الداخلية في ما خصّ الانتخابات البلدية». أما من حيث دستوريتها، فأشار إلى أن المسألة يجب أن تُقرأ من زاويتين اثنتين: الأولى تتعلّق بمدى دستورية اجتماعات مجلس الوزراء في ظلّ غياب رئيس الجمهورية من حيث المبدأ، وبمعزل عن جدول الأعمال ومحتوى المواضيع التي يبحثها؛ والثانية ترتبط بمدى توافر شروط ضرورة واستحالة إجراء الامتحانات لتبرير الخطوة.
من ناحيته، وفي دردشة مع «نداء الوطن»، لفت أمين عام المدارس الإنجيلية في لبنان، نبيل قسطه، إلى أن منح الإفادات سيشكّل الضربة القاضية للتربية، مضيفاً: «لا يمكن لأي كان أن يقوم بتغيير قرار مجلس الوزراء، لكن ما يمكن فعله هو المطالبة بالارتكاز على إفادات المدارس، رسمية كانت أم خاصة. أما من تقدّموا بطلبات حرّة أو «قدّموا زوراً» – إذا صح التعبير – فلا يجب أن يحصلوا على إفادات من أصله». قسطه أضاء أيضاً على ضرورة بدء التشاور وعقد اجتماعات مع القطاع الخاص لتفادي تكرار المشكلة في العام المقبل، خاتماً: «لَيتهم لم يستخفّوا بعقولنا واحترموا القليل من فِكرنا. عن أي أسباب لوجستية وأمنية يتكلّمون ولبنان على استعداد لتأمين أمن مليونَي سائح سيستقبلهم هذا الصيف؟ رحم الله امرؤاً عرف قدر نفسه… لا أدري ماذا يدور خلف كواليس السياسة، لكن كلّ ما أعرفه هو ضرورة منع إعطاء الإفادات وإلّا…».
«هيصة» الإمتحانات الرسمية
قبل الغوص أكثر في تداعيات القرار وخلفياته نسأل أولاً الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء، الدكتور نمر فريحة، عن أهمية الشهادة المتوسطة في ظلّ تراجع المستوى التعليمي في لبنان مؤخّراً. فريحة اعتبر بداية أن «صف البريفيه» هو كغيره من الصفوف، ابتدائية كانت أم ثانوية، ولا يختلف عنها بشيء. «لو أجرينا مقارنة أكاديمية بين الامتحانات الرسمية والامتحانات المدرسية، لَلاحظنا أن الأخيرة ما زالت أكثر جدّية. فبدلاً من «الهيصة» التي تترافق كل عام دراسي مع تأمين مراكز الامتحان والمراقبين والقوى الأمنية – وكأنه حدث ضخم لشهادة لم يعد لديها أي وقع في أي مكان – فلِمَ لا يتمّ الاستغناء عنها؟»، يتساءل فريحة. ويتابع واصفاً الأخيرة بعملية هدر للمال وإرباك للتلامذة مع شيء من الفساد والغش اللذين يتسلّلان إلى أروقة غرف الامتحان.
إلغاء الامتحانات الذي يتزامن عادة مع إعطاء الإفادات يُعتبر نقطة سوداء في سجّل وزير التربية. من هنا كانت محاولاته المستمرّة للادعاء بإجراء الامتحانات رغم الظروف الصعبة المحيطة، على عكس ما جرى هذا العام، بحسب فريحة: «الامتحانات الرسمية باتت عندنا جزءاً من الثقافة التربوية ذات الهالة الكبيرة، ولا تكتمل إلا بإطلاق النار وتنظيم الاحتفالات… أما أكاديمياً، فهي لم تعد تصنع أي فَرْقٍ. من هنا علينا وضع الشهادات بهدوء في إطارها التربوي الصحيح بعيداً عن المواقف المتشنّجة». وبالنسبة للمستوى التعليمي عامة، قال إن الإهمال وعدم الاكتراث كما عدم إعطاء القيمة المطلوبة للتربية إنما أوصلت إلى حالة من الضعف المستدام على صعيد الموارد البشرية والكفاءات التي كان يتغنّى بها لبنان سابقاً. والنتيجة هبوط المستوى التعليمي؛ تقليص أيام التعليم؛ ارتفاع الفاقد التعليمي (أو ما يُعرف بالهدر المدرسي والمرتكز على تقليص فصول المواد)؛ وسوء معالجة الوزارة للأزمة إذ جرى تقليص عدد كبير من مناهج المواد بدلاً من تقديم برامج مساعدة ومساندة. «كلّ ذلك أضحى وكأنه توجّه نحو التصحّر دون تَحمُّل أصحاب القرار مسؤولياتهم. فتدمير القطاع التربوي ليس خطة خارجية بِقدر ما هو إهمال واستهتار داخليان».
لا للإلغاء… على هذا النحو
المدير العام السابق للتربية الوطنية، البروفيسور مطانيوس الحلبي، أكّد بدوره في اتصال مع «نداء الوطن» أن وزير التربية فوجئ بعرض الموضوع من قِبَل وزير الثقافة تحديداً داخل الجلسة، معلّلاً أن «ما حصل هو إلغاء امتحانات نيل الشهادة المتوسطة وليس إلغاء للشهادة بحدّ ذاتها. القرار جاء كتدبير استثنائي لسنة واحدة ولأسباب أمنية بحتة، برأيه. و»شهادة «البريفيه» لم تُلغَ نتيجة مقاربة تربوية لها علاقة بتطوّر مفهوم الامتحانات والاختبارات، بل نتيجة مقاربة مالية وأمنية. وهكذا من الممكن أن تكون الأسباب موجبة، وهذا حديث يلامس حدود السياسة في الواقع. غير أن التوقيت كان خاطئاً جداً بمعنى أنه من غير المقبول إلغاء الامتحانات فجأة وبهذا الشكل مع نهاية العام الدراسي». ويستنتج الحلبي احتمال أن يكون في ذهن من تولّى اتخاذ هذا الإجراء تصوّر عن سهولة المسألة وبساطتها. فقرار الإلغاء تلزمه آليات وبعض الأسئلة هي برسم الوزارة، مثل كيفية إتمام عملية الترفيع والأسُس التي ستُعتمد في منح الإفادات.
نصغي ونعاود السؤال المبدئي: هل يجب فعلاً إلغاء الشهادة؟ يجيب الحلبي بأن الفكرة ليست جديدة، وقد طُرحت سابقاً في ظروف طبيعية كما في ظروف استثنائية. «حينها، ترافقت فكرة الإلغاء مع اعتبارات تستحق الدراسة، منها أن الشهادة المتوسطة لم تعد من ضمن شروط التوظيف لا في القطاع العام ولا في القطاع الخاص. وقد تمّت المطالبة بإلغائها تحت عنوان «الكلفة تفوق الحسنات» على اعتبار أن تكاليفها على الدولة كثيرة ومنافعها تكاد تكون معدومة. هذا إضافة إلى اعتبارٍ ثالثٍ أكثر أهمية ويفرضه تطوّر المفهوم التربوي برمّته». فالتربية كما النظام التربوي المثالي بلغا مستويات عالية من التطوّر في بلدان كثيرة ألغت الامتحانات الرسمية من قاموسها. وهذا المفهوم يستند إلى اعتبارات تربوية، نفسية، سيكولوجية وسوسيولوجية في آن. لذا، فالكلام عن إلغاء الشهادة المتوسطة لا يمكن تناوله إلّا في سياق تغيير المناخ التربوي والسيكولوجي وتطوير الهيكلية التربوية. «نحن أمام سلّة متكاملة، فحين تجتمع الاعتبارات الثلاثة المذكورة سابقاً، وعندما تتمكن الدولة من ممارسة حقّها في الرقابة على المؤسسات التعليمية بالمباشر في المدارس الرسمية وبغير المباشر في المدارس الخاصة ووفقاً للدستور الذي يضمن حرية التعليم، عندها فقط يمكن إلغاء الشهادة تلك وربما أيضاً «البكالوريا» لاحقاً. لكن وضع لبنان راهناً لا يسمح بذلك».
على أي حال، لا بدّ من إعادة التذكير بما لا يجب أن يسقط من بالنا. فتفلّت بعض المدارس من الأحكام القانونية ذات الصلة، والفوضى وعدم تمكّن الدولة من ممارسة صلاحياتها، والتراخيص العشوائية التي تُمنح للمؤسسات التربوية والأشكال التي تتّخذها الاختبارات الصفية في بعض المدارس، جميعها تجعل من الإلغاء قراراً غير مبرّر. ومراقبون للشأن التربوي يتخوّفون من أن تتأتّى عنه نتائج سيّئة على مسيرة التعليم في لبنان. أما الخوف، كلّ الخوف، فأن يصدق ما يتنامى إلى المسامع من همس ووشوشات: ربما هناك في الخلفية الأقل علنيّة للقرار – ونقول ربما – نيّة بمنح إفادات لطلاب سوريّين تتخطّى نسبتهم 20% من مجموع الطلاب الذين تقدّموا بطلبات حرّة للشهادة المتوسطة لهذا العام. الأكيد أن الصورة ستتّضح أكثر قريباً.
«البريفيه» شهادة فرنسية تمّ اقتباسها في لبنان من النظام التربوي الفرنسي إبان فترة الانتداب. يومها كانت المدارس اللبنانية والفرنسية تمنح الشهادات بناء على نتائج الامتحانات الرسمية. وكانت كل مرحلة دراسية تنتهي بشهادة رسمية. فشهادة «السرتفيكا» كانت تُمنح في الصف الخامس الابتدائي، «البريفيه» في الصف الرابع المتوسط، و»البكالوريا» (قسم أول وثانٍ) في نهاية المرحلة الثانوية. ومع الوقت، راحت هذه الشهادات تُلغى شيئاً فشيئاً. فتمّ الاستغناء عن «السرتفيكا» للمرحلة الابتدائية في العام 1972، وعن «البكالوريا» للمرحلة الثانوية في العام 1992. وبقيت «البريفيه» لتفصل بين مرحلتين (التعليم الأساسي والتعليم الثانوي)، إضافة إلى «البكالوريا» (قسم ثانٍ) أو الشهادة الثانوية. شهادة «البريفيه» كانت تخوّل حاملها سابقاً دخول دار المعلمين واستلام وظائف حكومية والانضمام إلى السلك العسكري كما دخول مدرسة الرتباء. ومنذ التسعينات، وعلى ضوء تحصيل شهادات عليا أكثر أهمية، فقدت تلك الشهادة قيمتها كما أهميتها الوظيفية.