كتبت ساسيليا دومط في “المسيرة” – العدد 1742
تُعتبر الصحة النفسية السليمة في مكان العمل من الأمور التي توليها الدول المتقدمة اهتماماً شديداً، فتجد في كل مؤسسة أو شركة أو أي مكان يضم موظفين على اختلاف اختصاصاتهم ومراكزهم، أشخاصًا يُعنون بالصحة النفسية، ويتابعون جميع العاملين عن كثب، مراعين ظروف كل منهم على الصعيد الشخصي الفردي والعائلي والاجتماعي. كذلك نلاحظ الدعم النفسي الفردي والجماعي في حالات الطوارئ الأمنية والاقتصادية والحوادث الطبيعية.
السبب يعود الى الأهمية القصوى المعطاة لراحة الفرد الشخصية وانعكاسها على جميع جوانب حياته، فلا يمكن فصل الوضع النفسي لشخص مكتئب عن علاقاته بأصدقائه أو عن مستوى إنتاجيته في مكان العمل.
قبل أعوام تمّ التوصل في لبنان إلى تقدم ملموس من ناحية الاهتمام بالصحة النفسية، فخفتت الوصمة المتعلّقة بالعلاج النفسي للأفراد والأزواج والعائلات، كذلك للمجموعات، وأصبحت تقنية الاسترخاء ودورات التوعية على الأمراض والاضطرابات النفسية من روتيننا اليومي. إلا أن الأزمات المتتالية وخصوصًا المشاكل الاقتصادية انعكست على مسار حياة المواطن اللبناني، أينما كان، في المنزل أو بين الرفاق أو في مكان العمل.
وإذا نظرنا بشكل عام إلى أجواء الموظفين في المدارس والجامعات والشركات، يظهر جليًا القلق والإحباط وتجنّب الآخر، من دون أن ننسى الانفعال والعدوانية بين الزملاء من جهة، وبين المرؤوس والرئيس من جهة أخرى.
بين زملاء العمل
لا نبوح بسر عندما نقول إن الموظف ذا المعاش المحدود يعاني من أزمة مادية جدية في لبنان، في ظل الاستحقاقات الضرورية التي عليه تغطيتها من ضمان طبي وتأمين وتعليم، بالإضافة إلى الماء والكهرباء، حيث عليه تغطية فاتورتين أو أكثر لكل منهما، هذا ولم نتطرّق الى كلفة المواصلات والتدفئة والتبريد، والغذاء والدواء، والتعليم والسكن…
سامر متزوج وله ثلاثة أولاد في المدرسة، يعمل وزوجته لساعات متأخرة كي يتمكنا من تغطية الحاجات الأساسية للعائلة، ومطلع كل شهر عليه أن يقتطع مع زوجته من معاشيهما ثلاثمئة دولار أميركي بدل إيجار منزل، ومئة دولار فاتورة بدل اشتراك المولّد الكهربائي، وفاتورتي هاتف بما يقارب الخمسين دولارًا، وكلفة اشتراك إنترنت منزلي، ودواء شهري لأمراض مزمنة لأمه وأبيه، ودفعة على الحساب من قسط المدرسة عن الأطفال الثلاثة، لينتقل بعدها إلى ما يتقاضاه مقابل عمله الليلي كرجل أمن لأحد المنتجعات، لتغطية طبخة باللحم وبعض الخضار والخبز وغيرها…
لم يعد سامر يرغب بتبادل الحديث مع زملائه في العمل، فهو مرهق جسديًا ونفسيًا ومعنويًا، ولا يكاد يبدأ بمناقشة همومه الحياتية اليومية، حتى تنهال عليه شكاوى ومشاكل الآخرين بالجملة، فيخففون عن بعضهم البعض حيناً، ويتجنبون تناول بعض القضايا حيناً آخر، وينفعلون ويصرخون ويتدافعون أحياناً انتقاماً من الظروف. خلاصة الكلام، هم يتشاركون خندقاً واحدًا، يجمعهم مكان العمل الذي يتطلب منهم الجهد والوقت والتعب من دون أن يغطي حاجاتهم الأساسية، فتخف قدرتهم على العطاء والمثابرة في العمل بسبب غياب الحماسة والرغبة والطاقة للتمكن من ذلك.
صاحب العمل والموظف
ويأتي صاحب العمل من مكتبه، طالبا من الموظفين المزيد، غير مدرك للظروف التي يمرّون بها، كأنه يأتي من عالم آخر، فيقول فادي: «أستاذ أنت تعلم بأننا نعمل لساعات طويلة، ونتقاضى ما لا يكفينا لتأمين حاجاتنا الأساسية، وأنتم ترفضون رفع ما نتقاضاه، وعلى الرغم من ذلك، نحن لا نُقدم على الاستقالة لأننا نحب هذه المؤسسة التي نعمل فيها منذ أعوام، وخوفاً من الجوع والعدم. نمر جميعًا بظروف جد صعبة، نكاد لا ننام ليلاً بسبب هموم حياتنا. نأتي إلى عملنا واجبا من دون رغبة، محبطين، أقرب ما نكون من الاكتئاب، ما يؤثر سلبًا على إنتاجيتنا والجو العام في مكان العمل، فإن كنتم لا تريدون أن ترفعوا رواتبنا، هلا فعلتم ذلك بمعنوياتنا من خلال التقدير والاستيعاب والمعاملة الحسنة؟
حالة الموظف
يعاني الموظف من انخفاض قيمة ما يتقاضاه من وظيفته، وما يرتبط بذلك من توقعات غير منطقية من أصحاب العمل، شعور بالعجز والنقص تجاه نفسه والمحيطين به، وخيبة الأمل والنقمة تجاه أصحاب العمل والمدراء ومكان العمل بحد ذاته؛ فيسيطر عليه الشعور بعدم الرضا والحزن والتعب بسبب ذلك، وقد يترافق مع آلام جسدية تمنعه من القيام بواجباته الوظيفية، بالإضافة إلى عدم الرغبة بالتسلية والمرح، تغزو وجهه علامات الحزن والقلق والاستسلام، فالإناء ينضح بما فيه.
يقضي الموظف في مكان عمله وقتا أطول مما يمضي مع أهله والمقرّبين منه، لذلك تصبح حياته مطبوعة بمؤثرات العمل وأجوائه وظروفه، وغالبا ما تربطه علاقة عاطفية بالمكان وبمن فيه كلما طالت مدة العمل، لذلك لا يمكننا الفصل بين حال الإنسان النفسية ومستوى إنتاجيته، إذ كلما ارتفع مستوى الرضا لدى الفرد كلما زاد مستوى مزاجه، وتزامن ذلك مع المزيد من الإنتاجية والنجاح والربح في المكان الذي يعمل فيه.
يتوقع الموظف غالبًا المزيد من أصحاب العمل، لكن هذه التوقعات قد لا تكون واقعية لأنها ترتبط كذلك بالمردود العام وقدرة المؤسسات على الاستمرارية، فيقع صاحب العمل بصراع بين الاستمرار بالعمل ودفع الأجور من اللحم الحي، أو التراجع والاستسلام.
من هنا، لا بد لكل شخص مهما كان موقعه أن يتعاطى مع الأمور بإدراك ويستند بذلك إلى الأمر الواقع، فصحيح أن الموظف لديه توقعات من أصحاب العمل، لكن ماذا لو جعل هذه الطموحات منطقية وعملية بعيدا من التأثير السلبي للمشاعر والانطباعات؟ أليس الأجدى في ظل الظروف الاستثنائية التي نمر بها جميعًا أن نحافظ على صحتنا الجسدية والنفسية، كي نتمكن من البحث عن الحلول واختيار المناسب منها عوضًا عن الإحباط والحرمان والغضب والعدوانية؟ في هذه الروحية قد يتوصل الموظف وصاحب العمل إلى مخارج للمصاعب التي يواجهانها، وتنعكس ربحًا على الطرفين بفضل العلاقات الإيجابية والتعاون.
ساسيليا دومط – عالمة نفس إكلينيكية – رئيسة دائرة المحللين والمعالجين النفسيين في مصلحة المهن المجازة في حزب “القوات اللبنانية”.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]