لعلّ ما جرى ويجري في بيئة “الثنائي الشيعي”، من منازعات عائلية عشائرية، واشتباكات بين مافيات ألعاب الميسر وتجارة المخدرات، وفوضى متنوعة الأسباب والدوافع، يدفع ثمنها المدنيون المسالمون وأصحاب السعي إلى رزقهم اليومي، بات يستدعي إعادة حسابات هذا “الثنائي”، وتحديداً “حزب اللّه”، حول شعاراته الخائبة، من تميّز بيئته بالاستقرار والبحبوحة المالية والاستقرار الاجتماعي، إلى النوم قريرة العين على الشريط الحدودي في الجنوب، كنتيجة ل” انتصاراته الإلهية” وتوازن الردع والرعب بفعل جبروته العسكري وصواريخه الدقيقة و”حشده” المليوني.
إعادة النظر هذه لا بدّ من أن تنطلق من مقارنة مع تجربتين سبقه إليهما طرفان على الأقل من أطراف الحروب اللبنانية الداخلية، هما الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب اللبنانية وبعده القوات اللبنانية.
التجربة الأولى في الجبل تحت مسمّى “الإدارة المدنية”، والثانية في ما عرف بالمنطقة الشرقية تحت مسمّى “الهيئة الشعبية” ثم الإدارة الذاتية لهذه المنطقة بإشراف “القوات”.
لقد كانتا تجربتين ناجحتين في غياب الدولة التي كانت بحكم المنحلّة، وقد نعم الناس خلال تلك المرحلة باستقرار فعلي رغم استمرار الحروب بين المناطق، ورغم الشكاوى من فرض ضرائب لتمويل صناديق الأمن والحرب.
لا ينقص حزب اللّه التمويل المتدفق من إيران ومن التهريب عبر المرفأ والمطار والحدود السائبة وتجارة المخدرات، بحيث يستطيع بسهولة إرضاء الفئات المحتجة أو الناقمة، وكذلك تأمين معاشات شهرية للآلاف من خارج عناصره و”سراياه”، كما يستطيع ضبط الفلتان بمئات عناصر “الانضباط” وأمنه ومخابراته. ومع ذلك يستنجد بما أبقى من الدولة للقيام ب”المهمة القذرة” في مكافحة الفوضى، تهرباً من الخلافات العائلية.
هذا الأداء الموارب من قبل “الحزب” جعل الوضع في بيئته يزداد تفاقماً وصعوبة في ضبطه، ويضعه أمام تجربة فشل ذريع خلافاً للتجربتين أعلاه.
ولا يمكن أن يستمر في الاختباء واللطو وراء أجهزة الدولة، واتهامها بالتقصير وتحميلها المسؤولية. فهو المعني الأول بهزّ ركائز هذه الدولة ونسفها من خلال تفلّته وتفرده في قرار الحروب، وفي نفخ صدور محازبيه بغرور القوة والتعالي على القوانين، تحت حجة “المقاومة”، وكأن ” الانتصارات الإلهية” تفرض أمناً وتُطعم خبزاً وتؤمّن استقراراً.
ما أوردناه لا يعني تشجيع “حزب اللّه” على إقفال بيئته أكثر مما هي مقفلة، ولا حضّه على تقليد نجاح تجارب سابقة، بل إدراك التناقض بين “الانتصار” من فوق و”الانكسار” من تحت.
فماذا ينفع بيئته إذا باعها شعارات “الأيام المجيدة” وهي تشتري الأمان المفقود بقلق العيون وخفق القلوب وسهر الليالي!؟
لا معنى لأي قوة أو غلبة أو انتصار إذا لم تترجَم باستقرار اجتماعي وضمان أمني وحرية عمل وتملّك وحركة واطمئنان إلى الأرزاق والأعناق.
حتى تجربة اللامركزية أو الفيدرالية أو التقسيم التي سبق “حزب اللّه” الآخرين إليها، تنهار بين يديه وأمام عينيه.
وقد آن الأوان لوضع حد لصلفه واستكباره، ضنّاً بمصلحة بيئته أولاً، وبمصلحة لبنان ثانياً، إذا بقيت عنده بقية من معنى لبنان وحقيقته ورسالته وعيشه المشترك كنموذج حضاري، قبل أن يدفن “مشروعه” على أنقاض لبنان القديم.