التزم أهالي بشري منذ وقوع حادثة القرنة السوداء الأليمة، في رفض معالجة مُسبّبات وذيول المصيبة التي ألمّت بهم خارح إطار الدولة ومؤسّساتها. ليس لسببٍ سوى إيماناً منهم أنه السبيل الأسلم لتثبيت حقّهم من جهة، وفي صون علاقتهم الأخوية مع منطقة الضنية وأهلها، بعيداً عن أي تأجيج طائفي أو حسابات فئويّة وعصبيّة، من جهة ثانية.
وعلى الرغم من هذا الالتزام الذي يُدرّس في أصول الوطنيّة الحقّة مِن قبل منطقة بشري، قيادةً وشعباً، واظبت بعض الأقلام والأصوات على حرف الحقائق ووضعها في غير إطارها، ربما عمداً أو عن عدم إدراك. وذلك ما لَحِقَ بمقال الصحافي سامر زريق في موقع “أساس ميديا” تحت عنوان “القرنة السوداء: الدم لا يجعل الباطل حقًّا..١/٢”، ما يستدعي التصويب المباشر وضعاً للنقاط على حروفها الأصلية.
أولًا، من أوجه التناقض الفاقع أن يُجيز الكاتب لنفسه سرد السياق الذي أوصل إلى حادثة “قمّة الشهداء”، لكون التحقيقات الأمنية والقضائية حول الجريمة قد انتهت وفق قوله. في حين يغرق في تأكيد امتلاك هذا الفريق للوثائق التي تُثبت ملكيته للقرنة، ويجزم بعدم تقديم الفريق الآخر لها، وكأنّه اطّلع على الملف الذي يُتابعه القضاء المختصّ والذي لم ينتهِ منه بعد.
ثانياً، إنّ الشكوك التي أوردها الكاتب في مقاله حول امتلاك بلدية بشري للوثائق التي تُثبت أن “القرنة السوداء” تقع ضمن النطاق الجغرافي لبلدية بشري منذ ما قبل نشوء دولة لبنان الكبير، هي شكوك ساقطة كون البلدية قدّمت كل الخرائط والمستندات التي تُثبت ذلك للجهة القضائية المختصة.
ثالثاً، كلام الكاتب عن تقسيمات الانتداب الفرنسي لا محلّ له من الإعراب، لكونه فاقداً للمصداقيّة من جهة، ويُعاكس ما روّج له في متن المقال المزعوم حول امتلاك بلدية بقاعصفرين الدليل الذي يُثبت ملكيّتها لأيّ جزء من أراضي بلدية بشري في “قمّة الشهداء” من جهة ثانية.
رابعاً، فاتَ الكاتب وهو في سياق كلامه عن “إشكالات” بدأت العام 1998، أي منذ 25 عاماً، حول مياه ثلّاجات القرنة السوداء، أن يذكر حقيقة موثّقة تُفيد بأن بلدية بشري تمتلك وحدها دون أي شريك حقّ تلزيم المراعي، بموجب دفاتر شروط منذ بداية القرن العشرين، أي منذ أكثر من 100 عام. وهذا الكلام موثّق أيضاً وكل الدلائل عليه موجودة في عهدة القضاء، عدا أن المشكلة لم تكن يوماً حول نسّافات الثلوج.
خامساً، تناقض آخر وقع فيه كاتب المقال، حين اعتبر أن مسار الإشكالات ارتبط بحضور الدكتور سمير جعجع في المعادلة السياسية بعد خروجه من المعتقل السياسي، أي منذ العام 2005، في حين يذكر في سياق سرديّاته أن الإشكالات بدأت العام 1998، فأيّ منهما نُصدّق؟
سادساً، تناول الكاتب سياق الأحداث التي ارتبطت بالقرنة السوداء، مُصوّراً أهالي بشري كمجموعة من المعتدين الخارجين عن القانون، مُتناسياً أو ربّما جاهلاً، أن وقائع التعديات، أي التي قام بها المُعتدي وليس المُعتدى عليه، وُثّقت بقرارات رسمية، نذكر منها على سبيل المثال:
قرار مجلس الوزراء رقم 55/2004 الذي كلّف وزارة الطاقة بإزالة التعديات في القرنة السوداء والتي قامت بها بعض الجهات من بقاعصفرين، تقرير وزارة الطاقة بتاريخ 2 أيلول 2004 الذي تحدث عن التلوث الناجم عن التمديدات التي قامت بها بعض الجهات من بقاعصفرين على مواقع الثلاجات، تكليف رئيس بلدية بقاعصفرين السابق عمر طالب من قبل الحكومة بسحب كلّ التعديات على مياه الثلاجات بتاريخ 19 تموز 2007، إقدام مجموعة مسلّحة من بقاعصفرين على إطلاق النار على دورية مشتركة من قوى الأمن الداخلي وشرطة بلدية بشري بتاريخ 2 تموز 2009، وصولاً إلى الاعتداء المسلّح الذي ذهب ضحيّته الشهيدان مالك وهيثم طوق في الأمس القريب.
سابعاً، ألم يستغرب الكاتب وهو المفترض به الحرص على الموضوعية أن يسأل رئيس بلدية بقاعصفرين الذي أورد له حديثاً في سياق مقاله، عن السبب الذي دفعه إلى الاستفاقة اليوم وبعد ثلاث سنوات على اعتبار أن لا صلاحية للقاضي العقاري للنظر بالقضية؟
والمستغرب أكثر والذي يتخطّى السكوت عن عمل القاضي العقاري وفريقه التقني المعاون على مدى ثلاث سنوات، هو لجوء بلدية بقاعصفرين أولاً إلى اعتبار أن ارتياباً مشروعاً يطال القاضية، ليس بصفتها القضائية بل بصفتها الشخصية، منذ فترة. ما يعني أن المشكلة المستحدثة لا تكمن بالجهة القضائية بل مع شخص القاضية، ليتطوّر الموقف في اعتبار أن المشكلة ترتبط بالموقع القضائي نفسه، في دلالة واضحة على محاولة عرقلة كلّ الجهود التي بُذلت لختم الملف قضائيًاً كأنّ المطلوب إبقاءه مُشرّعاً لمزيد من الحوادث. هذا دون إغفال التأكيد على صلاحية القاضي العقاري، وبحكم القانون، البت بهذا الملف.
ثامناً، إن أكثر ما يؤسف له في مقال الكاتب المصون، هو كلامه عن مذهب القضاة، وسؤاله عن سبب كونهم جميعاً من المسيحيين. وكأنه يمكن للمواطنين أو السلطات المحلية، وعندما يريدون تقديم أي دعوى، أن يُحدّدوا بأنفسهم هوية القضاة أو طائفتهم أو ربما مكان قيدهم، غافِلًا عن أن أي دعوى تُقدّم وفق الاختصاص إلى الجهة القضائية المعنيّة، التي قد تكون من أي طائفة أو منطقة.
تاسعاً، فاتَ الكاتب وفي معرض توصيفه الشخصي لسبب تراجع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي عن إنشاء لجنة وزارية لبتّ النزاعات العقارية، أن يتحدّث وهو المولج بدوره الصحافي بتوعية الرأي العام، بأن هذه اللجنة تُخالف في دورها، الذي أُنيطت به، المبدأ الدستوري القاضي بفصل السلطات.
أخيراً، إن أرقى درجات الوعي والصبر والحكمة التي تحكّمت بأبناء بشري على الرغم من مصابهم الأليم، لا يعني البتّة السكوت عن أي تعدٍّ أو تشويه أو تقزيم للحقوق وتدنيس للنضالات، لأن التحوير لا يُسقط الحقائق والدم الذي يُبذل دفاعاً عن الأرض يفضح الباطل وأربابه. والسلام.