بعد 26 تموز… الكلام للحكيم

حجم الخط

على مدى أيام عدة، كانت زحمة لم يعهدها المنزل في “يسوع الملك” منذ فترة طويلة، بل ربما هي الأكبر منذ استقرار ستريدا فيه.

ففيه أمضت النهارات الموحشة والليالي الموجعة، بسبب الحصار والتضييق، أما عشية خروج سمير من المعتقل، فتحوّل خلية نحل للرفيقات والرفاق الأوفياء، تحضيراً لمرحلة جديدة من النضال العلني بعد مرحلة قاسية من النضال السري المشرّف.

يومها قصدتُ المنزل بدعوة من ستريدا، للتنسيق والاطلاع مع بعض الرفاق على مسودة كلمة الحكيم التي سيتلوها في المطار أمام المستقبلين ووسائل الإعلام. لم يكن لنا أن نقترح تعديلات، بقدر ما أبدينا ارتياحنا للكلمة التي وجدنا فيها رجلاً ثابتاً على مبادئه، متصالحاً مع نفسه، ومستعداً لصفحة جديدة ومرحلة مختلفة من النضال.

كانت الفرحة لا تسع الجميع، عادت الروح إلى الشباب، وكان العناق يتكرر أحياناً عفوياً، تعبيراً عن سعادة طال انتظارها. والليموناضة التي كانت تعرف ستريدا أنها أكثر ما أحبه من ضيافة المنزل خلال الأيام السود، كانت حاضرة ولها طعم آخر.

في حينه، كانت الاتصالات “من فج وغميق”، من الصحف ووسائل الإعلام والمراسلين العرب والأجانب، وكانت الإجابات عليها مختصرة، فالقائد عائد، وله الكلام بعد اليوم، بعد طول صمت ورسائل مشفّرة من خلف القضبان. فقد كنت وزملاء آخرين نقصد المنزل لتقصّي ما أمكن من ستريدا، على الرغم من التأخير المتعمد لساعة أحياناً عند الحاجز الامني، أو لنتحرّى في مواقع أخرى سرّاً بعض الوقائع من وكلائه المحامين، وكم بلغتني رسائل تهويل للكف عن “التسريبات”.

في الغداة كان اللقاء في المطار، لم يكن الحكيم ناحلاً بقدر نحوله خلال جلسات المحاكمة كما رأيناه أمام المجلس العدلي. كان حاضر الذهن، تذكّر الجميع، وقلّة لم تكن من الحلقة القريبة تذكّرها لمجرد ذكر الاسم. قلت له أمام ستريدا: “الوسطى بخير”، فضحكا معاً، فالوسطى في شيفرة لغة الحبس هي “إذاعة لبنان الحر”، والكبرى “المؤسسة اللبنانية للإرسال” والصغرى مجلة “المسيرة”.

كانت 14 آذار الوليدة الجديدة كلها هناك، وبين المرحّبين من تكللوا بالشهادة، وفي مقدمهم بيار الجميل وجبران التويني وأنطوان غانم، ومن نجوا أو سينجون، من مروان حماده الى مي شدياق.

في القاعة، كان رجل بين روحات وجيئات يجول في ناظريه وكأنه غير مصدّق ما يرى، ثم يجلس على حافة كنبة، يضرب كفّاً بكف، يهز رأسه أو يربّت على ركبتيه، ثم يلكزني: “ليك ليك، معقولي، متل الحلم، كتّر خير الله”.

كان هذا الرجل أنطوان الشويري، متحاملاً على نفسه، وقد خرج منذ حين من عملية جراحية بعدما بدأ المرض ينال منه. ربما كان أكثر من يقدّر الموقف، فأنطوان الشويري كان من أبرز أبطال مرحلة الاعتقال، إذ عرف بإيمانه وصلابته كيف يبقي جذوة المقاومة مشتعلة لاسيما في قلوب الشباب، مطلقاً العنان لفريق الحكمة في كرة السلة كي يحقق الانتصارات المدوية ويثير حمية اللبنانيين ليتمكنوا من الصمود ويرفعوا التحدي.

بعد لقاء المطار لم يتأخر سمير جعجع في إدارة محركات الماكنة القواتية، مستعجلاً الخطوات والترتيبات، ليعوّض ما فات، مطمئنّاً الى الأرضية التي صانتها ستريدا مع ضُمة من القياديين والكوادر والمناضلين.

اللوحة في آخر مجسّم المعتقل في معراب، تشير الى نهاية احتجاز سمير جعجع ذاك الصباح، لكنها تذكّر كل من يمر بهذا المعلم، بأن الظلم مهما طال، فهو قصير في عمر الأمم الأبيّة والشعوب الحرة.​

المصدر:
فريق موقع القوات اللبنانية

خبر عاجل