الصمود أقوى الاستراتيجيات… هكذا تربك المعارضة مشروع الدويلة

حجم الخط

كتب شارل جبور في “المسيرة” – العدد 1743

الأداة التنفيذية لسياسة التعطيل التي تمتهنها قوى الممانعة تتمثّل بعامل الوقت الكفيل أن يُفضي إما إلى تراجع خصومها، وإما إلى اتخاذهم خطوات انفعالية ردًا على التعطيل تستفيد منها تحقيقاً لأغراضها السياسية.

غير صحيح أن تحريك الستاتيكو في أي وقت من الأوقات أمر مفيد، إنما يرتدّ سلبًا على الفريق المحرِّك لهذا الستاتيكو، وبالتالي إذا لم يكن هناك من وقائع صلبة مساعدة على قلب الطاولة، ولو لم تكن مضمونة بالكامل، فالمجازفة تكون بمثابة انتحار، وسنكتفي على هذا المستوى بمثلين معبّرين مع العماد ميشال عون:

المثل الأول إعلان العماد عون حرب التحرير في 14 آذار 1989 وقد أدّت إلى كسر الستاتيكو القائم بين منطقة حرة ومناطق غير حرة، وذلك بسبب التحرُّك الدولي لوقف الحرب خشية من تمددها وإجهاض المساعي التي كانت تُطبخ على نار هادئة بعيدًا من الأضواء والمتصلة بإطلاق عملية السلام بين الدول العربية وإسرائيل.

وإذا سلّمنا “بنوايا العماد عون الإيجابية” بتحريك الستاتيكو لإخراج الجيش السوري من لبنان، فإن هذا التحريك أدى بالمحصلة إلى إسقاط المنطقة الحرة بيد الاحتلال السوري، لأن الحرب لم تكن مدروسة ولا محضرّة ولا منسقة داخليًا ولا مع عواصم القرار، وهذا يعني أنه اتخذ قرارًا خاطئاً ونتائجه كارثية وما زال لبنان يعيش حتى اللحظة الارتدادات السلبية لهذا القرار.

فالحفاظ على المنطقة الحرة في ظل جبهات مستقرة أفضل بمليار مرة من سقوط هذه المنطقة، بمعنى أن الصمود ضمن الستاتيكو كان الاستراتيجية الأفضل والأقوى والأفعل في مواجهة النظام السوري.

المثل الثاني انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية لم يكن ليحصل لولا الملل الذي تسلّل لدى بعض قوى 14 آذار من الشغور الرئاسي الذي تسبّب به ثنائي “حزب الله” – عون، ولولا خشية هذا البعض من تذرُّع الحزب بالتمسُّك بعون للإطاحة باتفاق الطائف، الأمر الذي استدعى تبنّي شخصية من 8 آذار حفاظا على هيكل الدولة ودستورها، فيما لو تواصلت سياسة الصمود لكان اضطُر الحزب إلى التراجع ولو بعد سنوات.

والأمثلة لا تنتهي طبعًا من أحداث 7 أيار العسكرية ورفض 14 آذار الذهاب إلى الدوحة، إلى تأليف الحكومات والإصرار على وزراء وحقائب لإنهاء الشغور، وكل هذا المسار أوصل إلى خلاصة لدى فريق الممانعة بأن أفضل سياسة يعتمدها لانتزاع المكاسب من أخصامه هي التعطيل المتلازم مع الرهان على الوقت.

وما يشجِّعه اليوم على التمسُّك بمرشحه الرئاسي على رغم أن ميزان القوى النيابي لا يسمح له بانتخابه مرده إلى تجاربه السابقة التي لم يكن الميزان فيها لمصلحته وحقّق أهدافه عن طريق التعطيل وشراء الوقت، وما زال يعتقد أن حليفه المسيحي أو أخصامه سيتراجعون تحت مطرقة التعطيل، ولا يخجل من ترداد مقولة إن نَفَسه طويل.

فلا يريد الاحتكام للديموقراطية، ويرفض التسليم بالتعادل السلبي الذي يتطلّب التقاء القوى المتخاصمة على منتصف الطريق، ويصوِّر تعطيله الدستور كحق من حقوقه الدستورية، ولا قيمة عنده للمهل التي ينص عليها الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية، ويجاهر بمعادلة معيبة: إما انتخاب مرشحه أو الشغور المفتوح..

ومن الضروري التذكير أن الانقسام هو بين فريق يريد أن تستعيد الدولة دورها السيادي، وفريق يريد أن يبقى دور الدولة شكليًا وصوريًا، والفريق الثاني يستخدم التعطيل تحقيقا لأغراضه السياسية بإبقاء الدولة مشلولة وتحت سيطرته من خلال تكريس أعراف وانتخاب وتوزير وتعيين أشخاص يملون مشروعه الإنقلابي على الدولة داخل الدولة.

ولو تمّ التعامل معه منذ البداية على قاعدة رفض التنازل أمام التعطيل لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم، وكان أُجبر وأُلزم على التنازل باتجاه المساحة المشتركة، ولكنه اعتاد على انتزاع مطالبه غير المشروعة باستخدام سلاح التعطيل والعصا المتمثلة بعامل الوقت.

ويأتي من يسأل: هل يكفي منع الممانعة من انتخاب مرشحها؟ والجواب لا يفترض أن يكون كلاسيكيًا عن طريق التأكيد، إنما بطرح سؤال بالمقابل: ما المطلوب مثلاً؟ وهل باستطاعة المعارضة دحر المشروع الآخر وفرض مرشحها؟ فأي موقف يتخِّذه أي فريق يجب أن يؤمِّن له مقوّمات تحقيقه، وخلاف ذلك تتحول إلى مواقف هوائية لا قيمة لها.

فلا قدرة للمعارضة اليوم على نزع سلاح “حزب الله” ولا على إلزامه تسليم سلاحه، ولا قدرة لها على انتخاب مرشحها وعلى إدارة الدولة بمعزل عن الممانعة، ولكن لديها كامل القدرة على منع الممانعة من انتخاب مرشحها الرئاسي، كما منعها من إدارة الدولة بمعزل عنها، وهذا السلاح “النووي” الذي بحوزتها لا أحد باستطاعته انتزاعه منها سوى في حال قررت، كما فعلت دومًا، التنازل عنه طوعًا.

فالصمود هو أمضى سلاح استراتيجي بانتظار التوقيت المناسب الذي يسمح بتحقيق ضربات سياسية هجومية موجعة، ولكن أي خطوة غير محسوبة ترتد على أصحابها سلبًا، ولذلك، يجب أن تكون كل الخطوات مدروسة، ولا يفترض إطلاقاً التقليل من سياسة الصمود والتي تعني رفض التنازل مهما كان الثمن والتضحيات.

وانطلاقا من الظروف الداخلية المتصلة بموازين القوى الوطنية والنيابية والسياسية والشعبية، وانطلاقا من الظروف الخارجية المتعلقة بانشغال العالم بأزماته وغياب الاستعداد الدولي لمنع طهران من التدخُّل بالشأن اللبناني الداخلي الذي يحول دون تطبيق الدستور والقرارات الدولية، فإن السلاح الوحيد والممكن والأقوى والأفعل في هذه المرحلة هو الصمود على الموقف الرئاسي برفض انتخاب مرشّح الممانعة ولو استمر الشغور لسنوات.

وجلّ ما على المعارضة القيام به هو تحصين صمودها وتعزيزه وتقويته، خصوصًا أن صمودها يستند إلى شرعية ومشروعية: فهي تصمد رفضًا للانقلاب على الدستور، ورفضًا لانتخاب مرشّح رئاسي بسلاح التعطيل، ورفضًا لتعطيل الآليات الانتخابية، ورفضًا لمنطق الفرض والقوة، ورفضًا لهيمنة فريق الدويلة على الدولة، ورفضًا لتغطية الانتخاب الانقلابي، ورفضًا لمنح المشروع الانقلابي التغطية والمشروعية، ورفضًا لاستمرار الواقع الانهياري..

فلا خيار أمام المعارضة في هذه المرحلة سوى الصمود، وما عليها سوى الابتعاد عن الملل من جهة، وعن محاولات كسر ستاتيكو الشغور بخطوات فاقدة للمقوّمات والمعطيات من جهة أخرى، وعليها أن تتيّقن أنها بصمودها تقض مضجع الممانعة وتزعجها وتربكها وتسقط مشاريعها ومخططاتها ومآربها.

فلكل مرحلة سياستها وسلاحها، ويكفي المعارضة اعتزازًا أن تخرج من المعركة الرئاسية منتصرة باضطرار الممانعة على التراجع عن مرشحها، كما يكفي أن تنجح لمرة لتفتح باب النجاحات للمرات كلها، ولا يفترض الاستخفاف بما حققته حتى اليوم من تراجع باريس عن مبادرتها الرئاسية، إلى صدور بيان عن اللجنة الخماسية يشكل جزءًا لا يتجزأ من ثوابتها السيادية والإصلاحية، وما بينهما إسقاط الحوار كمحاولة لتكريس عرف إنقلابي جديد على الدستور باستبدال الآلية الانتخابية الرئاسية بآلية حوارية، وهذا عدا عن أن نتيجة الحوار معروفة سلفاً.

فقد قطعت المعارضة بصمودها طريق الممانعة المؤدي إلى القصر الجمهوري في بعبدا، وقطعت بصمودها الطريق إلى حوار في معرض انتخابات، وقطعت الطريق على مبادرة خارجية استنجدت بها الممانعة لتحقيق انتصار خلافاً لموازين القوى النيابية والوطنية والمسيحية، وقطعت الطريق على محاولات تعديل الدستور بالحد الأقصى وتكريس أعراف مخالفة لهذا الدستور بالحد الأدنى..

وجلّ ما هو مطلوب في هذه المرحلة أن تواصل المعارضة المزيد من الصمود نفسه، فالكلمة السحرية هي الصمود، وخطة المواجهة الاستراتيجية تكمن في الصمود، وصمودها أقوى من الـ100 ألف مقاتل وترسانات السلاح، فلا أحد في العالم باستطاعته انتزاع توقيعها أو موافقتها.

 

شارل جبور – رئيس جهاز الإعلام والتواصل في “القوات اللبنانية”

 

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل