المسيحيون:  القلق مشروع الخوف ممنوع

حجم الخط

كتب انطوان مراد في “المسيرة” – العدد 1743

قد يستغرب البعض إصرار المسيحيين في لبنان على التمايز عن سائر المسيحيين في المشرق، وتاليًا على التمسك بما يعتبرونه حقوقاً وثوابت تؤكد أن لبنان هو وطنهم الذي يتمتعون فيه بالشراكة الفعلية وبالحرية. فالواقع أن المسيحيين اللبنانيين بعامة لا يميّزون أنفسهم عن المسيحيين في بلدان المحيط، ولا يعتبرون أن المقارنة تجوز، بل إنهم ينظرون إلى وجودهم، وبمعزل عن أي اعتبار آخر، كحقيقة لا تحتاج لا إلى صكوك وإفادات، ولا إلى براءات ذمة.

يضم الأردن مواقع مسيحية عدة ترقى إلى مرتبة المقدسات، وأخصها موقع المغطس حيث عمّد يوحنا يسوع في مياه النهر، ويضم العراق ورثة المسيحيين الأوائل بما يمثلونه من تاريخ عريق، وتضم سوريا معالم مسيحية معبّرة ولا سيما التي تتعلق بالقديس مارون (من امتداد جبل قورش إلى براد) وصولاً الى دمشق التي بشر فيها بولس. ويتردد أن رأس يوحنا المعمدان موجود في مقام النبي يحيى كما يسمّيه المسلمون داخل الجامع الأموي فيها، والذي كان كنيسة على اسمه. أما الأراضي المقدسة التي يتقاسمها الفلسطينيون والإسرائيليون فهي موطن يسوع والعديد من الأنبياء والقديسين، وفيها ولد وعاش وبشر وصُلب وقام.

ومع ذلك، الوجود المسيحي في هذه البلدان، من دون أن نستثني مصر وتركيا، كان غالبًا، إن لم يكن دائمًا، وجودًا ترتبط حريته برغبات الحكام وبمدى تقبل الأغلبية لهم كمواطنين كاملي المواصفات والحقوق. أما في لبنان، فإن المسيحيين لم يخضعوا على مر الحقبات والاحتلالات للأمر الواقع، بل عرفوا كيف يحافظون على حد أدنى أو مساحة أدنى من الحرية، ولم يترددوا عندما يتعرض وجودهم لخطر كياني في المقاومة والمواجهة، حتى استحقوا مع من جاراهم في تنسُّم الحرية، التمتع بخصوصية معينة، لا سيما في زمن الإمارة وصولاً إلى زمن المتصرفية، علمًا أن الموارنة تصرفوا أحياناً وكأن الاحتلالات المتعاقبة لا تعنيهم كثيرًا طالما أنهم متحصّنون في جبالهم، ويتجنّب الولاة صدامهم.

هذه الحقيقة تبلورت تدريجًا حتى ولادة لبنان الكبير واستقلال لبنان، حيث تمتع المسيحيون بثقة كبيرة بلغت حد التسليم باستعادة لبنان حدوده التاريخية، والركون الى الميثاق الوطني كعقد شراكة يرتكز الى التوازن بمعزل عن حسابات الأعداد والأرقام، وفي ظنهم أن العالم إلى مزيد من التطور والليبرالية والضوابط المدنية، ليتبيّن أن الرياح التي عصفت بالشرق، لا سيما بعد الثورة الخمينية الإيرانية، أعادت عقارب الساعة إلى الوراء، واستعادت منطقاً ماضوياً ولغة طائفية مقيتة، ما فرض اللجوء الى خيار القوة والسلاح والهيمنة والفرض وما تسبب به ذلك من حروب ونزاعات ما زالت قائمة.

على أن هذه التحديات لا تعني أن المسيحيين خائفون أو بلغوا مرحلة اليأس، لكنها في الوقت عينه لا تلغي القلق لديهم على وجودهم في لبنان بالذات وعلى لبنان بالتحديد. فالمسيحيون لديهم القدرة على التأقلم في دول الغرب، وتاليًا لديهم خيارات بديلة. أما الفارق، فيتمثل برفضهم القاطع التخلّي عن أرض الآباء والأجداد والقديسين والشهداء، فلبنان وطنهم الذي كانوا في أصل ولادته، وإلا لكان جزءًا أو محافظة أو ريفاً لبلد آخر.

عندما تصدّى المسيحيون لجور العباسيين في العام 759 في المنيطرة، لم يخشوا المواجهة، وعلى الرغم من هزيمتهم، فقد استطاعوا أن يصعّبوا كثيرًا رهان العباسيين على إخضاعهم واستكمال الاستيلاء على أراضيهم.

وفي العصر المملوكي، لم يخشَ المسيحيون المواجهة لا سيما في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، حيث حقق الموارنة إنتصارات مدوية وتلقوا هزائم قاسية، ومع ذلك تمسكوا بالخميرة إيمانًا وأرضًا وإرادة بقاء، فتجاوزوا نكسة فتح كسروان واستشهاد بطريركين وتدمير الكنائس والأديار والبلدات والتهجير الواسع، وعادوا تدريجًا إلى قراهم وأراضيهم، وواجهوا بصبر وروح معنوية عالية المظالم العثمانية، حتى استحقوا إستراحة إستثنائية تمثلت بإرساء نظام المتصرفية، بعد ما تعرضوا له من مذابح ومؤامرات تحت أعين السلطنة وبتحريضها ومباركتها الضمنية.

وليس كالحرب العالمية الأولى مثالاً لما يشبه حرب الإبادة ومن دون الاحتكام إلى السلاح المباشر، عبر الحصار المحكم ومنع استيراد المواد الغذائية أو مصادرتها، ومساهمة الجراد في النكبة.

لقد كان المسيحيون آنذاك شعبًا شديد الإيمان “يخاف ربه”، ما منعه أحياناً من الانتفاض أو السرقة أو تشكيل عصابات، لكنهم في الوقت عينه عرفوا كيف يصمدون على رغم الويلات ومشاهد الجوعى يموتون في الطرقات. ولذلك استردوا سريعًا أنفاسهم بقيادة البطريرك الماروني والوطنيين المتنوّرين، لتكريس الكيان اللبناني مساحة حرية وتنوّع.

اليوم، يجد المسيحيون أنفسهم في تماهٍ مع تاريخهم المثقل بالهموم كما بالنضال الدائم، تحدوهم تساؤلات حول مدى رغبة بعض الآخرين أو شريحة من مواطنيهم في استعادة لبنان الإنسان، لبنان الميثاق، لبنان التعددية، لبنان الحرية والعدالة، ليس تشكيكاً بوطنية الآخرين، بل انطلاقا من أن المسيحيين كانوا دائمًا رأس حربة ويتصرفون كأم الصبي وعلى قاعدة أنهم القيّمون على استمرار لبنان الذي كانوا في أساس دولته الحديثة، وإلا لا معنى لوجوده وطناً ودولة.

ولذلك، لا يخشى المسيحيون الخوض في المزيد من التحديات، ولا يحسبون حسابًا كمن يتهيّب معادلات الأكثريات والأقليات، فلبنان لا يُقاس بتعداد سكانه وتوزيعهم الديموغرافي والطائفي، بل يُقاس بمنسوب الحرية فيه للأفراد والجماعات، وبمنسوب السيادة للدولة فيه قراراً ومؤسسات.

إن ما يريده المسيحيون اليوم، يريده كل لبناني حر، وطن يوفر العيش بحرية وكرامة، ولو تطورت أو تم تعديل تركيبته حرصًا على استمراره وتماسك الدولة فيه. ما يريده المسيحيون هو دولة كاملة السيادة لا يستقوي فيها أو عليها فريق أو تخضع لهيمنة خارجية مباشرة أو غير مباشرة.

وما يريده المسيحيون لا يخشون من طرحه والنضال من أجله مهما غلت التضحيات، فالهجرة تزعجهم لكنها لا تقض مضاجعهم، والمعاناة المعيشية لا تفتّ من عضدهم، والتعرّض لحقوقهم وأملاكهم لا يدفعهم الى الهرب أو الرضوخ، ولذلك يدفعون الثمن حتى الاستشهاد ويعطون للدولة ومؤسساتها الفرص الكاملة لفرض القانون وإقرار العدالة. لكن التمادي في الاستفزاز والضغط والاعتداء على الحقوق أفرادًا وجماعات، لن يسهم إلا في تصليب إرادة الصمود وبلورة روح المقاومة. إنهم يدركون المخاطر المحيقة ولذلك يختارون وسيختارون دائمًا الشجاعة في التصدي حينا وفي الحكمة حينا، فالشجاعة تتمثل بمقاومة الخوف والسيطرة على الخوف، وإن لم تلغه، لأنه جزء من حياة المجتمعات وبني البشر، فإما أن ينتصر أو ينحسر.

 

أنطوان مراد ـ مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” لشؤون الرئاسة

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل