4  آب… أية عدالة!

حجم الخط

كتبت جومانا نصر في “المسيرة” – العدد 1743

4 آب

أية حقيقة! أية عدالة!

على مجسّم نعش صنعه أهالي ضحايا جريمة تفجير المرفأ اتّكأت أم ثكلى. بعينيها الخضراوتين والمتعبتين كانت تنظر وتتمتم… “بدل ما تكبر حدّي صرت عم ربّي ولادك”. هناك أمام ما تبقى من هياكل الإهراءات يتناوب أهالي 233 ضحية سقطوا غدراً على الوقوف ويقسمون… لن ننسى وسنحاسبكم!

وهل ينسى من ودع ابنه ذاك الصباح في الرابع من آب 2020 وطبع على خده قبلة قبل أن يتوجّه إلى مركز عمله. لكن بدل أن يستقبله بقبلة على خده، حمله أشلاء في نعش أبيض لأنه كان يلبي نداء “إطفاء حريق عادي” في العنبر رقم 12، أو لأنه صودف وجوده في تلك اللحظات في مرفأ بيروت أو محيطه، أو أيضاً وأيضاً لأنه كان يجلس في منزله!؟

هل ينسى من وضع في النعش الأبيض “رقعة” من بزة إبنه في فوج الإطفاء، واستعاض آخر بكومة حجارة يملأ فيها النعش لأن ضمائر المسؤولين المشلعة كما أشلاء الضحايا لم تتحرك ولم تفضح خفايا الجريمة التي بدأت معالمها مع تخزين أطنان من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، فكانت الكارثة التي لم ولن يمحوها التاريخ مهما حاولوا طمسها تحت معالم الإهراءات والدمار الذي خلّفه ثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم، في السادسة و7 دقائق من ذاك الثلثاء الأسود.

3 أعوام مرت على جريمة تفجير المرفأ والسؤال لا يزال نفسه: أين الحقيقة؟ أين العدالة؟ كيف يتنفس أهالي الضحايا وهم يعيشون تلك اللحظات التي خطفت من عمرهم فلذات أكبادهم؟ كيف يكمل جرحى ومعوقو تلك الكارثة ولا أحد يتذكرهم أو يسأل عنهم؟

يروي إبن أحد ضحايا المرفأ أنه التقى منذ فترة وجيزة أحد القضاة المطّلعين على سير العمل القضائي في لبنان. وعندما سأله عن الأسباب التي دفعت رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود إلى الموافقة على قرار وزير العدل بتعيين قاضٍ رديف في ملف جريمة تفجير المرفأ بذريعة النظر حصراً في ملف الموقوفين في القضية كان الجواب: “واضح أن هذا الملف سيفجّر البلد. وهناك قرار على أعلى المستويات بإقفاله بس مش عارفين كيف”.

عذراً، هم حتماً “يعرفون كيف” لأنهم على درجة عالية من الوقاحة. يدركون كيف يطمسون الحقائق، ويعرفون كيفية تدويرها وتحويرها لتنتهي بعد مخاض ميؤوس منه إلى توجيه أصابع الاتهام إلى “موظفين صغار” بتهمة “إهمال وظيفة”. وإذا صدقتم “الكذبة” التي تحيكونها فنحن لا! لم ولن نصدق أن مجرد “إهمال” في طريقة التلحيم أو التوضيب أو… أدى إلى قتل 233 ضحية وجرح ما لا يقل عن 7000 مواطن وتدمير عاصمة بكاملها.

جيد أن يكون أحد أهالي الضحايا قد سمع هذا الكلام، وباعترافه يصرّح “كلام القاضي خلاني إقرا شو عم بيصير وشو راح يصير”. فهِم أن ما حصل وسيحصل في ملف جريمة تفجير المرفأ أكبر من حجم الانفجار وتداعياته “بدّن يسكروا الملف وطالما أن هناك قاضيًا يتعاطى مع الأمر الواقع بهذه البساطة فهذا أمر محزن للغاية لأنه لو قام القضاء بما يتوجب عليه لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم بعد مرور عامين وشهرين على الجريمة”.

ثمة من يقول “ست الدنيا” انتفضت على حزنها ودمارها وقامت من تحت الرماد كطائر الفينيق كما في كل مرة تضرب النكبات بيروت. وثمة من يقول إن جروح البشر اندملت وأهالي الضحايا خلعوا عنهم ثوب الحداد “وبوكرا بينسوا والحياة بتكفي”.

كابوس الرابع من آب يطاردنا. هو لسان حال الأهالي الذين تُركوا من دون أجوبة وعدالة، وبقي هذا الجرح مفتوحًا. هم يريدون أجوبة عن الكثير من الأسئلة. ونحن أيضا. نحن من حالفنا “الحظ” هذه المرة بأن نكون شهوداً لا شهداء. نريد أجوبة: من قتل أولادنا ولماذا؟ مَن المسؤول عن تخزين مادة الموت لأعوام وأعوام؟ من هم “الصامتون” عن تلك الجريمة ولماذا سكتوا ويسكتون؟ وكيف يمكننا تفادي تكرار المشهد؟”.

ثلاثة أعوام على التفجير المشؤوم، وعدّاد الضحايا ما زال يواصل ارتفاعه حتى بلغ 233 ضحية. مئات الجرحى المصابين بإعاقاتٍ جسدية ما زالوا يعانون في منازلهم حد الموت. ثمانية منهم قضوا خلال العام الثاني للتفجير: عباس مظلوم، إبراهيم حرب، رامي فوّاز، جوليا عودة، جانيت عودة، رندة رزق الله، ريتا حرديني، جورج حداد. ومنهم من لا يزال يرقد على فراش الألم أو يغرق في شبه غيبوبة إنها حال ليليان شعيتو ولارا حايك.

ثلاثة أعوام وأهالي الضحايا يهرعون وراء حقيقة وعدالة لم تتوانَ السلطة عن عرقلتها ولم تحرّك ساكناً للعمل على تحقيقها. 3 أعوام من دون عدالة عبر التمسّك بالحصانات التي من المفترض أن تكون لحماية النائب بأعماله التشريعية وليست لحمايته من أفعاله الجرمية، وعبر محاولة إحالة الوزراء إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي نصفه من النواب، والذي لم يحاكم يوماً أحداً.

ومع أنّ مسؤولين أمنيين وسياسيين لبنانيين كبار، كانوا يعلمون بوجود نيترات الأمونيوم المخزّنة عشوائيًا في مرفأ بيروت، لم يُحاسب أحد أحدًا من المسؤولين. “إذا أردنا الحصول على الأجوبة، لا يمكننا الاعتماد على أمل بالمقاضاة المحلية فقط”، هذا هو مطلب أهالي الضحايا وما توصلوا إليه بعد مخاض عسير للسنة الثالثة.

كتلة نواب “الجمهورية القوية” استدركت وها هي بشخص نوابها تعمل “على فكّ أسر القضاء وتحقيق العدالة بكل ما أوتينا من قدرات. فأصبح موضوع جريمة مرفأ بيروت على طاولة المحافل الدولية، من الأمم المتحدة وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي. وها هو البرلمان الأوروبي يتحرك اليوم بعد أن كان مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قام بذلك سابقاً، نتابع معه بالتعاون مع أهالي الشهداء والمتضررين ومؤسسات غير حكومية ونواب”.

يوم نثرت كاريلين زوجة الضحية في فوج الإطفاء الورد على نعش زوجها شربل كرم كانت تعلم أن ما في داخله قطعة من أشلاء الحبيب والأب لطفلتين. لكنها كانت تؤمن أن روح شربل ورفاقه في فوج الإطفاء كما أرواح كل ضحايا 4 آب انزرعت في كل شبر من هذه الأرض التي أحبها حتى الموت احتراقاً.

عندما وقفت ابنة الضحية في فوج الإطفاء شربل كرم أمام والدتها كاريلين وسألتها؟ من أشعل المرفأ وقتل بابي شربل؟ استغربت الأم سؤال طفلتها التي كان عمرها لا يتجاوز العام عندما قتل شربل خلال القيام بواجبه، فأجابتها بسؤال: “لماذا تسألين عن هوية من أشعل النار”؟ أجابت الطفلة: “بدي روح لعندو وقللوا إنو ينتبه مرة تانيي وما يولّع النار حتى ما يحترقو ناس متل ما مات بابا شربل”.

ويقولون بعد بوقاحتهم المعهودة… ما حصل كان نتيجة خطأ وإهمال وظيفي. أية حقيقة، أية عدالة! إنها آتية حتماً!

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل