يعيش العالم على وقع تدهور الأوضاع على جبهات القتال بين روسيا وأوكرانيا في ظل تسجيل ظاهرة جديدة في مسار الحرب تمثلت بانتقال القتال من البر الى البحر ومهاجمة ناقلات نفط واغذية وتبادل قصف موانئ ومرافئ، والاهم التصويب الاوكراني على شبه جزيرة القرم وجسر كريتش وسواها من أماكن استراتيجية حساسة سواء للروس او الاوكرانيين.
هذا التصعيد العسكري والذي ينذر بالانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة ان استمر يجعل مصير العالم باسره على كف عفريت خاصة في ظل انعدام الحلول والتسويات وازدياد الدعم العسكري والأميركي لاوكرانيا الى جانب الدعم السياسي والإعلامي والاستخباراتي والعسكري.
من هنا برز بصيص امل تمثل بمبادرة المملكة العربية السعودية الى الدعوة لعقد مؤتمر سلام في أوكرانيا لوقف الحرب تحسسا من القيادة السعودية بعمق وخطورة التصعيد المدمر بين الروس من جهة وأوكرانيا والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي من الواضح بانها باتت تنظر الى أوكرانيا كخط دفاع متقدم لمواجهة روسيا واستنزافها.
وبالفعل انطلقت في جدة بعد ظهر السبت الماضي في 5/8/2023 المحادثات واعمال المؤتمر حيث قدم الوفد الاوكراني الى المؤتمرين الممثلين لـ 30 دولة باستثناء روسيا التي لم تدع، ولكن ستوافيها المملكة بنتائج المحادثات، النظرة الأوكرانية للسلام والمبنية في جزئها الأساسي على صون سيادة أراضي أوكرانيا كاملة واسترجاع الأراضي المحتلة.
الرياض من جهتها ترى ان هذا الاجتماع قد يسهم في “تعزيز الحوار والتعاون من خلال تبادل الآراء والتنسيق والتباحث على المستوى الدولي حول السبل الكفيلة لحل الأزمة الأوكرانية بالطرق الدبلوماسية والسياسية، وبما يعزز السلم والأمن الدوليين، ويجنب العالم المزيد من التداعيات الإنسانية والأمنية والاقتصادية للأزمة.
وينعقد هذا الاجتماع في لحظة تقوم القيادة الأوكرانية بالضغط الدبلوماسي الكبير لحشد دعم يتخطى نطاق الداعمين الغربيين الأساسيين، من خلال التواصل مع دول النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، التي لا تزال مترددة في توضيح موقفها حيال صراع أضر بالاقتصاد العالمي.
وقد خرج الرئيس الاوكراني اثناء المحادثات بموقف عبر فيه بكل وضوح ان الغرب يريد من كييف التفاوض مع موسكو وان كل توجهات الحلفاء الغربيين لاوكرانيا تصب في خانة التوصل الى مفاوضات مع الرئيس الروسي.
التوقعات بخروج الاجتماع في جدة بنتائج تشكل اختراقا في النزاع مع روسيا ضئيلة وغير متفائلة كثيرا، الا ان الرياض أبدت استعداد المملكة للقيام بمساعيها الحميدة للإسهام في الوصول إلى حل يفضي إلى سلام دائم.
كما يأتي الاجتماع في جدة في أعقاب محادثات أجريت في حزيران في كوبنهاغن ولم يصدر في ختامها بيان رسمي.
عدد من الدبلوماسيين المطلعين على اعمال المؤتمر يعتبر ان هدف المحادثات إشراك مجموعة من الدول في نقاشات حول مسار السلام، ولا سيما أعضاء مجموعة “بريكس” التي تضم إلى روسيا كلا من البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، وهي بلدان تبنت مواقف أكثر حيادية بشأن الحرب فامتنعت عن الوقوف بجانب أوكرانيا بدون دعم الغزو الروسي فيما الرياض تهم للانضمام لتلك المجموعة قريبا.
المملكة العربية السعودية، أكبر مصدر للنفط الخام في العالم، اتخذت تلك المبادرة من اجل السلام في أوكرانيا والعالم استثمارا في علاقاتها مع الجانبين الأوكراني والروسي، للسعي إلى لعب دور وسيط في الحرب التي مضى عليها الآن ما يقرب من عام ونصف، ويتماشى ذلك مع خطوات دبلوماسية إقليمية شهدت مؤخرا العمل على إصلاح الخلافات مع قطر وتركيا ثم إيران وسوريا.
فولوديمير زيلينسكي رحب بمحادثات جدة، بما في ذلك مشاركة البلدان النامية التي تضررت بشدة من ارتفاع أسعار المواد الغذائية الذي أحدثته الحرب، واعتبر ان ذلك مهم للغاية لأنه في قضايا مثل الأمن الغذائي، يعتمد مصير ملايين الأشخاص في إفريقيا وآسيا وأجزاء أخرى من العالم بشكل مباشر على مدى سرعة تحرك العالم لتحريك مسار السلام، على حد قوله.
لا داعي للتذكير ان المملكة العربية السعودية أيدت قرارات مجلس الأمن التي تدين الغزو الروسي وكذلك ضم روسيا لأراض في شرق أوكرانيا فيما كانت واشنطن قد خالفت التوجه السعودي أنذاك حين نددت العام الماضي بتخفيضات إنتاج النفط التي قادتها الرياض وموسكو للمساعدة على رفع الأسعار والتي تمت الموافقة عليها في تشرين الاول 2022 ووصفتها بأنها ترقى إلى “التحالف مع روسيا” في الحرب .
لكن الرياض استمرت في نهجها المنفتح على الجميع بما يلبي مصالح المملكة، وفي ايار الماضي استضافت الرياض زيلينسكي في قمة جامعة الدول العربية في جدة، حيث اتهم بعض القادة العرب بـ”غض الطرف” عن أهوال الغزو الروسي، في اشارة الى الرئيس السوري بشار الأسد حليف الرئيس الروسي والذي كان قد دعي الى القمة وحضرها ظنا منه انه سيستقبل بالاموال والهبات والأرز والعطر وها هو الان يذوق طعم المرارة في منطقته المحاصرة من سوريا.
هكذا فان الرياض تبنت “استراتيجية توازن كلاسيكية” يمكن أن تخفف من أي موقف روسي مناهض لاجتماعات جدة، فالرياض تعمل مع الروس في عدة ملفات، لذا فان موسكو لن ترفض او تعرقل مثل هذه المبادرة التي قامت بها المملكة العربية السعودية في الملف الاوكراني.
مهما يكن من امر فان المبادرة السعودية لعقد لقاء المستشارين للأمن الوطني لثلاثين دولة من اجل البحث في السلام في أوكرانيا خطوة هامة وواعدة نأمل ان تستكمل فصولا، وصولا الى حل سياسي للحرب في أوكرانيا التي باتت حرب الروس ضد الغرب والغرب ضد روسيا، خاصة في ظل الشلل التام والخطير للأجهزة والمؤسسات القانونية الدولية وفي طليعتها مجلس الامن العاجز عن انهاء الحرب ومنع انزلاق العالم نحو مواجهة عالمية ثالثة تكون كارثية على الجميع.
يبقى اعتبار ان هذه المحادثات هي مثال رئيسي على نجاح استراتيجية السعودية المتعددة الأقطاب في الحفاظ على علاقات قوية مع أوكرانيا وروسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية في نفس الوقت وقد جاء وقت توظيف تلك العلاقات لهدف نبيل: وقف الحرب.