كتبت ألين الحاج في “المسيرة” – العدد 1743
متهمون يضربون هيبة القضاء و”قضاة” غدروا بالقسَم
المجرم لا يحاكِم نفسه!
بعد مرور ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت، لم تجد الجريمة الأعظم في تاريخ البلد إلى العدالة سبيلاً، ولم يلتئم جرح الأهالي النازف. فأيادي الغدر لا تزال حرة طليقة، والتحقيق القضائي يرزح تحت نير سلطة فاسدة تمارس ضده أقصى درجات القمع والترهيب. اهتزت الأرض في الرابع من آب عام 2020 ولم تهتز ضمائر المسؤولين اللبنانيين، حتى كادت القضية الإنسانية الأولى في لبنان تموت سريريًا لولا إيمان بعض الأصوات الوطنية بضرورة إنعاشها يوميًا. ووسط الأشواك، شق المحقق العدلي القاضي بيطار طريقه، ليصل إلى مراحل متقدمة من التحقيق، أعادت الأمل إلى أهالي 220 ضحية إضافة إلى 7000 جريح إصابات بعضهم مزمنة، قبل أن تُكف يده مرارًا وتكرارًا.
في خطوة وُصِفت يومها بالمفاجِئة، ادعى المحقق العدلي القاضي طارق بيطار على عدد من الشخصيات السياسية والأمنية والقضائية من بينهم المدير العام السابق للأمن العام عباس ابراهيم، ومدير عام أمن الدولة طوني صليبا إلى رئيس المجلس الأعلى للجمارك العميد أسعد الطفيلي، والنائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات. لكن بعد كل ها المسار أي هي القضية اليوم وماذا عن المستقبل؟
المدعى عليهم يواصلون مزاولة مهامهم ضاربين بعرض الحائط قرارات القاضي بيطار، أشار الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر عبر “المسيرة” إلى أن “مفاجأة بيطار فجرت بدورها غضب المدعى عليهم الذين رفضوا الإمتثال أمام المحقق العدلي واعتبروا أن لا قيمة قانونية لمذكرات التوقيف تحت حجة أن الأخير أصدرها يوم كانت يده مكفوفة”.
لم يُفاجأ صادر برد فعلهم، في ظل هيمنة السلطة الفاسدة، على التحقيق، لكنه أكد أنه من حيث المبدأ “يجب منعهم من مزاولة أعمالهم وعلى القوى الأمنية توقيفهم عندما تجدهم”. وأعلن أن القاضي بيطار لم يرمِ اتهاماته جزافاً بل باتت مفاتيح الحقيقة في جعبته “البعض انتقد، سابقاً، توقيف صغار العاملين في مرفأ بيروت، لكن لهؤلاء المساهمة الأكبر في الكشف عن خيوط الجريمة بفعل وجودهم الدائم في المكان وعلى مدار الساعة، ما سمح للقاضي بيطار، عند استجوابهم، من جمع معلومات وافية، قادته إلى معرفة من المسؤول المباشر عن العنبر رقم 12، كما الكشف عن حركة الدخول إلى العنبر وما يحتويه، وإلى ما هنالك من تفاصيل تدور حوله”.
“ما يمّيز القاضي طارق بيطار أنه شخصية مختلفة بتركيبتها وليس من النوع الذي يركع. فعندما كُفت يده مراراً، طفح به الكيل، وبحث عميقاً حتى توصّل إلى دراسة قانونية تفيد بأن المحقق العدلي ملك ملفه ولا يجوز عرقلة عمله من خلال قبول طلبات تنحٍ في حقه، ما دفع به إلى الإدعاء على كل من أظهره التحقيق على علاقة بالجريمة واعتبر ضمناً أن القاضي عويدات كان يعلم لكونه أشرف على تصليح العنبر 12، وأوامر تلحيم الباب جاءت من النيابة العامة التمييزية”.
أما في الوقت الراهن، وعلى رغم وجود دعاوى عديدة ضده من قبل مدعي عام التمييز غسان عويدات شخصياً، يواصل القاضي بيطار العمل على ملفه ومراجعته بجدية، كما أكد صادر، موضحاً أن المحقق العدلي “يرفض لعب دور البطل على حساب القضية”.
صادر لفت إلى أن “المحقق العدلي فضّل الحذر والتريث قبل إصدار القرار الظني، خدمةً للقضية، بانتظار أن تتغير ظروف البلد السياسية، لأنه على يقين بأن السلطة سوف تعتبر القرار باطلاً وتدعي أنه يضع يده على الملف من دون وجه حق”. ويجزم بأن القاضي بيطار، في حال لم يتمكن من معاودة مزاولة عمله “سيلجأ إلى طريقة قانونية لعرض ما توصلت إليه تحقيقاته حول وقائع الانفجار والكشف عن هوية المتورطين أمام المجتمع اللبناني والدولي”. وأكد صادر أن تطورات خارجية موازية تخدم الملف بشكل كبير أبرزها تلك المتعلقة بالحكم الصادر ضد شركة سافارو والذي من شأنه أن يسهّل مهمة التحقيق إلى أقصى الحدود كونه كشف عن السجل التجاري للشركة في لندن، وسيؤدي حتماً إلى تحديد هوية المالكين الحقيقيين لنيترات الأمونيوم.
والجدير بالذكر أن حكماً صدر ضد الشركة فرض عليها تقديم تعويضات للمتضررين الذي أقاموا دعوى مدنية ضدها.
وأسف صادر لقيام السلطة اللبنانية ورئيس الجمهورية آنذاك بعرقلة التحقيق الدولي، حيث كان الأجدى، وفقاً له، التوجه إلى مجلس الأمن الدولي “ليعلن أن القضاء اللبناني والأجهزة الأمنية والسياسيين عاجزون عن كشف ملابسات جريمة المرفأ، ويقرر حينها تعيين لجنة تحقيق دولية تبت بالقضية”.
وإذ يؤكد صادر أن التحقيق الدولي يفرض على الدول تزويده بصور الأقمار الاصطناعية “حيث أن كل دولة في مجلس الأمن لديها موجب تعاون وإلا تتم إدانتها علناً”، إلا أنه يكشف في الختام أنه في ظل التغيّرات الإقليمة، بات واضحًا أن إهتمام المجتمع الدولي بلبنان وجريمة المرفأ خفُتَ بشكل ملحوظ.
الثقة بالقضاء اللبناني
وجهة نظر مختلفة حول جريمة العصر، عرضها عضو مكتب الإدعاء في نقابة المحامين عن إنفجار مرفأ بيروت المحامي يوسف لحود حيث أشار في حديث إلى “المسيرة” إلى أن لديه “كامل الثقة بالقضاء اللبناني” على رغم اعترافه بعجز التحقيقات عن السير بالسرعة المطلوبة.
وعن أسباب ثقته بالقضاء اللبناني أوضح “من حيث المبدأ أثق به وعملياً أنا مضطر لذلك مع عدم توفر أي بديل”. وتحدث عن نقطتي ضعف تدفعانه إلى التمسك بالقضاء المحلي:
الأولى، يتابع لحود “تتعلق بالأدلة التكنولوجية الحديثة حيث امتنعت كافة الدول العظمى عن الرد على استنابات قاضي التحقيق العدلي، ورفضت تزويد لبنان بصور الأقمار الاصطناعية ما يؤكد أن اللجوء إلى التحقيق الخارجي لن يعطي نتيجة”.
والثانية، وهي لا تقل أهمية عن الأولى وتتمثّل في أن “الخارج لا يملك إمكانية متابعة التحقيق وبالتالي إصدار قرار اتهامي، لذلك فلا جدوى من التوجه إليه”.
وأضاف: “إصدار قرار إتهامي وتحويل المتهمين إلى المجلس العدلي يتطلب هيئة قضائية مولجة وليس تحقيقاً استقصائياً أو لجنة تقصي حقائق”.
وحيث أن قاضي التحقيق طارق بيطار تمكن من معرفة المتورطين في الجريمة، اعتبر لحود أن “لجنة تقصي حقائق خارجية لن تقدم ما ليس متوفراً محلياً، والعقدة الموجودة في الملف لا يمكن للقضاء الخارجي حلّها ونحن بحاجة فقط إلى تحويل المحاكمة أمام المجلس العدلي”.
وتوجه لحود إلى الإعلام المحلي، داعياً إياه إلى تحمل مسؤولية الإبقاء على قضية انفجار المرفأ حيّة وممارسة شتى الضغوط على من يخالفون القانون، وأنه “يجب خلق تعاون بين كافة القطاعات لتصل جريمة المرفأ إلى خواتيمها»، مبدياً أسفه لعدم التطرق إعلامياً إلى مذكرات التوقيف ومنتقداً بشدة «استضافة بعض وسائل الإعلام، الفارين من وجه العدالة”.
وتحت عنوان “العدالة المعطلة في لبنان: حان الوقت لتحرك دوليّ”، عقد تكتل الجمهورية القوية مؤتمراً صحافياً في السابع من تموز 2023 بالاشتراك مع منظمات حقوقية دولية وأهالي الضحايا والمتضررين من جريمة انفجار المرفأ، بهدف الإضاءة على التطورات الأخيرة في ملف التحقيق بانفجار 4 آب والخطوات العملية اللاحقة.
المؤتمر توجه أيضاً إلى الأمم المتحدة عبر عريضة للمطالبة بتعيين لجنة تقصي حقائق في ملف مرفأ بيروت، تقوم بدراسة حول عرقلة العدالة محلياً وتأخير التحقيقات والمحاكمات، كما أشار عضو التكتل غسان حاصباني، الذي شارك في المؤتمر، لمجلة “المسيرة” أن تشكيل هذه اللجنة “ينطلق من مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، الأكثر قدرة على التحرك من الأمم المتحدة» وذلك بخلاف عريضة تم تقديمها في وقت سابق إلى مجلس الأمن عبر الأمين العام للأمم المتحدة، واعتبر أن مسارها أكثر صعوبة «لكونها لا ترتبط بموضوع حقوق الإنسان كما تتطلب توقيع الحكومة الرسمية للبلد، الأمرالذي لن يحدث”.
حاصباني أوضح أن العريضة الأخيرة “رفعناها مع أهالي الشهداء وعدد من النواب من خارج تكتلنا شاركوا معنا بدورهم إضافة إلى منظمة Human rights watch وغيرها لأننا نسعى إلى الدفع بمجلس حقوق الانسان نحو إقرار لجنة تقصي حقائق خلال اجتماعه في الشهر الحالي أو في أيلول المقبل كمتابعة لقرار اتخذه سابقاً يحث المسؤولين اللبنانيين على التأكد من سلامة التحقيقات واستقلاليتها ومصداقيتها”. ولفت إلى أنها أتت بثمارها مع البرلمان الأوروبي الذي اتخذ قراراً أكد فيه بشكل واضح وجود تفلت من العقاب في لبنان وعرقلة للعدالة لدرجة لوّح باحتمال استعمال قانون الإطار للعقوبات. كما ذكر في قراره توصية للأمم المتحدة بتشكيل لجنة تقصي حقائق بتحقيقات انفجار مرفأ بيروت.
إنما لم ينفِ حاصباني، أن المسار الدولي الذي طالبوا به، الهدف منه مؤازرة القضاء اللبناني وليس استبداله، مبدياً رغبته في أن يعمل القضاء اللبناني باستقلالية من دون تدخل وعرقلة بدعم من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
عدم نسيان الجريمة
بدوره، أشار المهندس إيلي حصروتي إلى أن أهالي الضحايا، وضعوا نصب أعينهم هدفاً واضحاً ألا وهو “عدم نسيان الجريمة». ولفت خلال حديثه إلى “المسيرة”، إلى أن المسيرة السنوية التي تنظم في الرابع من آب، وبغض النظر عن برنامها، تشكل “وقفة مع الذات والضمير لكل مواطن باعتبار أن الجريمة استهدفت الجميع”. وأكد أن طريق العدالة محفوف بالتحديات. “لنكن واقعيين” علّق متابعاً أن “السلطة التي فجرت المرفأ لن تحاكم نفسها» . وأضاف “لم يطرأ أي تطوّر جدي في الملف خلال السنوات الثلاث الماضية ونحن ندرك جيداً أن مسيرة التغيير طويلة ولا يمكن أن تحصل بين ليلة وضحاها بل خطوة بخطوة، لذلك كان لا بد من تنظيم الوقفة السنوية، لكونها أساسية على تواضعها”.
كما شدد على أهمية دور جميع اللبنانيين في “مسيرة النضال” لضمان عدم تكرار هكذا جرائم بحق لبنان واللبنانيين في نهاية المطاف. وأشار إلى أننا “كشعب لبناني غير موجودين في معادلة السلطة التي فجرت بيروت ولبنان والتي تواصل مسارها العبثي، الأمر الذي يفرض علينا إعادة تفعيل وجودنا في معادلة الحكم لخير الوطن والخير العام”، داعيا الجميع إلى التضامن والمشاركة في الوقفة السنوية وتسجيل موقف شعبي ووطني، كاشفاً أنهم كأهالي ضحايا يعقدون إجتماعات أسبوعية للاستمرار في تفعيل الملف.
في خلاصة الآراء حيث أجمعت مختلف وجهات النظر على أن لبنان لن يلمس في الأفق المنظور نتائج فعلية للتحقيقات في ثاني أكبر إنفجار غير نووي عالمياً، إلا أن كل المؤشرات تؤكد أن اللبنانيين على موعد مع قلب للموازين ودحر لسلطة عاثت ببلدهم فساداً، وبهم قتلاً من غير تحقيق ولا جزاء!
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]