قسّ، لاهوتي، مفكِّر وشاعر، ولد ديتريش بونهوفر في المانيا في الرابع من شباط عام ١٩٠٦. عندما بدأت الظاهرة النازية تغزو ألمانيا، عارضها بونهوفر منذ البدء وسُجِن وأُعدم شنقاً عن عمر ٣٩ عاماً.
انكبّ بونهوفر مليّاً على دراسة النّازية وكيفية انخراط المجتمع الألماني في هذه الظاهرة المدمِّرة بحماسة وشراسة، هو الذي انجب بيتهوفن وشوپنهاور ونيتشه وغوتيه… كاد بونهوفر لا يصدّق ما يراه من تدمير لكلّ القيم الانسانية والتبعيّة العمياء لزعيم مهووس، سفّاح ونرجسي كهتلر.
كيف تحوّلت المانيا من بلاد الثقافة والرقيّ الى الرايخ الثالث الذي يسحل كل شيء على طريقه فيدمّر الحجر والبشر والثقافة والقيم؟ كيف صفّق الشعب الالماني في هستيريا جماعيّة لايديولوجيا عقيمة وهلّل من أجلها للموت الآتي لا محال؟
لم يستطع بونهوفر فهم هذه الظاهرة القاتلة حين حاول ايجاد عناصر اليقين في دراسة سوسيولوجية للجماعة. كما لم يستطِع فهمها في دراسة سيكولوجيّة للفرد. لكنّه وجد مفتاح اللغز حين درس جدليّة العلاقة بين الفرد والمجتمع والزعيم في مقاربة سوسيو سيكولوجيّة.
تنطبق الظاهرة نفسها على روسيا ستالين، حيث طُمِر تشيخوف وپوشكين ودوستويفسكي وپروكوفياف في انقياد أعمى خلف ستالين رغم القمع ونفي ملايين الروس الى سيبيريا.
ماذا عن ايطاليا حيث ضحّى الشعب بعباقرة النهضة وبدانتي وماكياڤيلي، اكراماً للدوتشي وقمصانه السود.
يقول بونهوفر إن الامر ليس مرتبطاً بنيّة سيئة لدى المجتمع ولكن بتخلّي الفرد طوعاً عن حرّية تفكيره وحسّه النقدي، كما انقياد الجماعة بشكل اعمى خلف الزعيم. في ذلك شيءٌ من قناعة جان جاك روسّو بأن الجماعة لا تسعى الى الشرّ ولكن حين ينتج الشرّ عن أعمالها يكون ذلك بسبب سوء تقدير وسوء فهم.
في تقييم بونهوفر انّه من الأسهل مواجهة النوايا السيئة من مواجهة غياب قدرة الفرد والجماعة عن التمييز بين الخير والشرّ لأن هؤلاء يصمّون آذانهم وعقولهم أمام كل ما يخرج عن قواعد ومقاربات وضعها لهم الزعيم. حتى حين تُظهر الوقائع خطأ الفرد والجماعة، يتمّ اعتبارها احداثاً عابرة او جزءاً من مؤامرة. حين تصل الأمور الى هذا الحدّ، وبخاصة عند تحديد عدوّ للايدولوجيا السائدة، نكون في مرحلة الخطر من انقضاض المنقادين على منتقديهم ولو بقوّة السلاح. يشدّد بونهوفر بأن هذه الحالة ليست مرتبطة لا بمستوى الذكاء ولا بالشهادات او المستوى الاجتماعي، لكنّها قد تصيب كل هؤلاء حين يفقدون القيم الانسانية وحريّة التفكير والحسّ النقدي.
ماذا عن دور الزعيم في هذه الظاهرة؟
لا شكّ في أنّ بعض القادة فتحوا طريق الانتصار لشعوبهم مثل تشرشل أو ديغول.
لا شكّ ايضاً أنّ بعض القادة ورّطوا شعوبهم في مستنقعات الدّم والنار كما ستالين وهتلر وموسوليني.
ما الفارق بين الاثنين؟
الفارق الأساسي هو أن قادة النجاح المستدام حافظوا على قيم مجتمعاتهم كما على حريّة الفرد، في حين ضرب الديكتاتوريون قيم المجتمع والحسّ النقدي لدى الجماعة ولدى الفرد.
ابرز العوارض لهذه الظاهرة المدمّرة هي الأجوبة المعلّبة لدى الفرد لأي موضوع او سؤال يطرح وهذا دليل على تخليه الطوعي عن حريته.
الشفاء من هذه الظاهرة أمرٌ صعب ومعقّد، لكنه غير مستحيل. إنّه يتطلّب أولاً تمايز الفرد عن الجماعة إن لم تعد تدافع عن قيمه ومن ثمّ اعادة بناء الفرد الحرّ على اساس حسّه النقدي ورأيه الشخصي وقيمه.
قبيل اعدامِه كتب بونهوفر بأنّ خلاص المجتمعات وتطوّرها يكمنان في المحافظة على قيمها الانسانيّة وحسّها النقدي والاهم التفكير بالارث الذي ستتركه للاجيال القادمة. كل شعبٍ عظيم يبني مستقبله ويحاسب مسؤوليه على هذا الاساس وما عدا ذلك وهمُ عظمة خطير.