صحيفة الجمهورية- شارل جبور
الفارق الأساس بين الشغور الرئاسي السابق والشغور الحالي يكمن في الانهيار المالي الذي سيضع المعنيين أمام خيارين لا ثالث لهما: الانتخاب أو الفوضى. تتضاءل تدريجاً قدرة الدولة على دفع مستحقاتها من رواتب وطبابة ودواء وكهرباء وغيرها، وستصل في وقت قريب لتعلن عجزها عن الدفع بعد تبذير ما تبقّى من عملة صعبة ضمن الاحتياطي الإلزامي الذي هو كناية عن أموال المودعين، هذا عدا عن احتمال التوقُّف عن الإنفاق عن طريق الصرف الاضطراري، والذي سيؤدي، في حال حصوله، إلى فوضى في الداخل، لأنه مع التوقّف عن دفع الرواتب ومستلزمات القطاعات الحساسة والحيوية والاستراتيجية في الدولة يتحوّل الشارع إلى الحل الوحيد.
فالوضع المالي المُختلف هذه المرة عن المرة السابقة يَنسف مقولة «النفس الطويل» التي يتغنى بها «حزب الله» ويرددها في كل محطة ومناسبة، لأنّ الانهيار يقطع النفس ويُسقط المكابرة ويضع الجميع أمام الأمر الواقع، والحزب الذي لا يستطيع مواجهة الإشكالات التي تشهدها المناطق الخاضعة لنفوذه وتأثيره، لن يتمكّن من مواجهة جيوش الموظفين والغاضبين الذين لن يبقى أمامهم بعد فترة سوى الشارع وإلا الموت جوعاً.
وقد نجحت الدولة في التكيُّف مع الانهيار، ونجاحها مَرده إلى ضبط الإنفاق من الاحتياطي الإلزامي على رغم ان هذا الإنفاق غير مشروع لأنه يُبدِّد ما تبقّى من ودائع الناس، وبالتوازي مع تلاشي الكتلة النقدية المتبقية بالعملة الصعبة فإن الإدارة الجديدة لمصرف لبنان ستجد نفسها أمام حلّين: إما الاستمرار في السياسة النقدية السابقة التي تعهدّت بالقطع معها، وإما رفض إقراض الدولة، وهذا هو الصحيح والطبيعي. لكنّ فشل الدولة في جباية الرسوم والضرائب وضبط الحدود والمعابر سيدفع باتجاه السقوط المدوي للبلد.
وما تقدّم يؤكد انّ رواية او سردية الشغور المفتوح والنفس الطويل غير صحيحة، والتنفّس الاصطناعي الذي يخضع له لبنان اليوم يمكن تمديده لأشهر، ولكن لا يمكن الكلام عن سقف زمني مفتوح، وما صَحّ سابقاً لا يصحّ اليوم. وعندما تأتي ساعة الحقيقة سيكون الجميع أمام الامتحان والتنازل، لأنّ أحداً لا يريد انزلاق لبنان إلى فوضى تدخل البلد في فصول مجهولة يصعب التحكُّم باتجاهاتها.
ويظنّ الفريق الذي يصرّ على معادلته «مرشحي أو الشغور» انه مُمسك بزمام المواجهة الرئاسية، وانّ المبادرة بيده وأخصامه سيرضخون لشروطه، ولكن ما يدركه او لا يدركه ربما انه سيضطر عاجلا أم آجلا إلى تسليم المفاتيح الرئاسية إلى اللجنة الخماسية إذا كان يريد تجنُّب الفوضى، التي سيكون أول المتضررين منها، كونه المستفيد الأول من الستاتيكو الحالي الذي يمكِّنه من الإمساك بمفاصل الدولة.
فرفض التقاطع على مرشّح توافقي يشكل انعكاسا لميزان القوى القائم، والإصرار على معادلة غالب ومغلوب، وإبقاء الشغور مفتوحا لتغيير المعادلات الداخلية، سيؤدي هذه المرة إلى تدويل الاستحقاق الرئاسي بالكامل، لأنّ من يملك القدرة على التعطيل لا يملك القدرة نفسها على وقف الانهيار ومنع الفوضى التي سببها تَبخُّر العملة الصعبة، فسيأتي من يضع اللبنانيين أمام خيارين: إمّا تَركهم وشأنهم، أو انتخاب المرشّح الذي تختاره الخماسية ومقابل هذا الانتخاب يتلقى لبنان الدعم المطلوب لفرملة كوابح الانهيار.
ومَن راهَنَ طويلاً على عامل الوقت ومن أصبح هذا العامل جزءا من استراتيجيته، خرج هذه المرة عن سيطرته كونه لا يملك أدوات المواجهة المالية التي ليست من اختصاصه، ولا يستطيع ان يتهم الولايات المتحدة ولا المجتمع الدولي بالانهيار الناجم عن الفشل في إدارة الدولة، وأي اتهام من هذا القبيل هو اتهام سياسي لا يمت إلى الواقع والحقيقة بصلة، والمجتمع الدولي ليس من واجباته مساعدة دولة لا تساعد نفسها، فضلاً عن انه ساعد لبنان كثيرا، وما زال، ولولا مساعداته لكانت هَوَت الدولة اللبنانية منذ زمن طويل، ولا يجوز تحميل الغير مسؤولية مُلقاة على عاتق الفريق المُمسك بمفاصل الدولة ويرفض الإصلاح وضبط الحدود وجباية الضرائب من أجل رشوة المنظومة الحامية للسلاح.
ولا يستطيع ان يرفض تدخُّل الخارج مَن استدعى هذا الخارج بمبادرة فرنسية لفرض رئيس للجمهورية غير قادر على انتخابه بالتوازنات البرلمانية الحالية، كما لا يستطيع ان يرفض هذا التدخّل بعد ان رفض الاحتكام إلى آلية الانتخابات الديموقراطية، وبعد ان أوصَل الدولة إلى الانهيار، خصوصاً ان هذا الخارج لا يتدخّل لِفرض رئيس له، إنما لانتخاب رئيس يعيد الانتظام إلى المؤسسات لتستعيد دورها وتُخرج البلد من الانهيار إلى الاستقرار.
فالخارج يريد مساعدة لبنان لتجنيبه الأسوأ، ولو حصلت الانتخابات الرئاسية في توقيتها، ولو كان لبنان يَنعم باستقرار، لكان وَفرّ على المجتمع الدولي بذل مساعيه وجهوده في ظل انهماك دُوَلِه بمشاكلها الداخلية وانهماكه في الأزمات الساخنة على امتداد العالم، فهو بحاجة لمشاكل أقل وليس هاوياً تَعقّب الأزمات ومعالجتها على رغم عدم تحبيذه سياسات النفوذ والتدخلات التي تمارسها بعض الدول خلافاً للشرعية الدولية.
فالانهيار المالي الحتمي والكلّي الذي يسير لبنان باتجاهه بخطى ثابتة سيجعل مصير الانتخابات الرئاسية كلياً في يدّ اللجنة الخماسية التي ستُخيِّر اللبنانيين بين انتخاب الرئيس الذي وضعت مواصفاته في بيانها الأخير في الدوحة، وبين تركه لمصيره ينزلق إلى الفوضى وسقوط هيكل الدولة، ولأنّ «حزب الله» هو بين السيئ عدم انتخاب مرشحه غير القادر على إيصاله أساساً وخسارة موقع الرئاسة، وبين الأسوأ تراجعه إلى داخل مربعات بيئته وخسارته مَفاصل الدولة وسقوط الستاتيكو الممانِع الممتدّ منذ العام 1990، فإنه سيختار السيئ بالتأكيد.
والمواصفات التي وضعها بيان اللجنة الخماسية في الدوحة ذكرّت بشعاري 14 آذار لبنان أولا والدولة أولا مع إضافة الشعب أولا، حيث شدّد البيان على انه «لا بد أن ينتخب لبنان رئيسا للبلاد يجسّد النزاهة، ويوحّد الأمة ويضع مصالح البلاد في المقام الأول، ويعطي الأولوية لرفاه مواطنيه، ويشكل ائتلافا واسعا وشاملا لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، لا سيما تلك التي يوصي بها صندوق النقد الدولي»، وتتّجِه المعارضة إلى تبنّي هذه المواصفات وتسليمها إلى الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الذي كان قد دعا إلى اجتماعات عمل في أيلول بعنواني مواصفات الرئيس ومهماته، كما تتجِه إلى تبنّي أيضا ما ورد في البيان حول مهمات الرئيس والسلطة التنفيذية لجهة «الحاجة الماسة إلى الإصلاح القضائي وتطبيق سيادة القانون، لا سيما فيما يتعلق بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وأهمية تنفيذ الحكومة اللبنانية لقرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقيات والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة، بما في ذلك تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية، بالإضافة إلى الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني التي تضمن الحفاظ على الوحدة الوطنية والعدالة المدنية في لبنان».
فاستراتيجية الرهان على الوقت والنفس الطويل التي يعتمدها «حزب الله» اصطدمت هذه المرة بالحاجز المالي ولن تعود قابلة للصرف قريباً، فإمّا أن يتقاطَع مع الكتل المعارضة في منتصف الطريق الرئاسي على مرشّح ضمن اللائحة التوافقية وبمواصفات الدوحة، وإما ان يخيّر بالمرشّح الذي تختاره اللجنة الخماسية أو الفوضى