كتبت نجاح بو منصف في “المسيرة” – العدد 1743
هو سجل أسود وليس ذهبي “منذور” للويلات والنكبات، لكن ثمة ذهبًا يسطع بين ثنايا سواده، هي بيروت، “عنقاء” المتوسط الجميلة، تقارع أقدارها منذ قرون وقرون، زلازل وطاعون، مجاعة واحتلالات، اغتيالات وحروب، ولا تستسلم، تُصلب فتقوم، تُحرق فتنهض من الرماد، تُدمّر فتنتصب من تحت الردم، تُقتَل فتولد من جديد وتحلّق.. تحلق كطائر الفينيق.. هي “ست الدنيا”، ولكم يحلو للتاريخ رواية حكايات تلك «الثائرة المقاومة» العصية على الموت، مدينة احترفت ختم أزمانها السوداء بنهايات نسجتها بذهب عشقها للحياة، هي “بيروت المحروسة” أسطورة الأزمان بلا منازع، بنكباتها وقياماتها، وهو التاريخ يحكي بسطور سوداء مرصّعة ذهبا…
هي “بيروت المحروسة” نعم، هكذا كانت تُلقب على أيام “العثملي”، مدينة قلّما عرف التاريخ مثيلاً لها في تعرّضها للنكبات والكوارث والحروب، كما في مقاومتها لها، وبقدرتها “العجيبة” على لملمة جراحها، وها هي اليوم تطوي ثلاث سنوات على نكبة الانفجار المروّع الذي أتى على مرفئها، وعلى قسم كبير من عمرانها، موقعاً المئات من سكانها ما بين شهيد وجريح، وإن كانت تلك “النكبة” هي الأحدث وربما الأكثر إيلامًا وفظاعة لها، إلا أن تاريخ بيروت القديم والحديث، مثخن بما تعرّضت له من كوارث وأمراض ومحن ودمار وحروب وويلات تناقلتها الألسن لفترات طويلة، وكتب عنها وفيها الكثير، منذ ما قبل الميلاد وحتى أيامنا…
محاصرة تريفون
في العام 140 قبل الميلاد تعرّضت بيروت للخراب والتدمير على يد الملك الهليني ديودوتس تريفون الملقب بـ”المختلس”، فأحرقها وأطلق عسكره لتهديم بنيانها من أساسه، فأمست خرابًا ولم تعد تُسكن لمئة سنة تالية، ليُعاد لاحقاً بناؤها على الطراز الفينيقي ولتحمل اسم لاوديسيا (Laodicea) الفينيقية، كما اتجه بعض المؤرخين لتلقيبها بـ”لاوديسيا الكنعانية”.
بيروت “مقلوبة” رأسا على عقب
من الكوارث البشرية الى الطبيعية. فسجل بيروت حافل بالزلازل التي قلبتها رأساً على عقب، ومما يروى عن زلازل ضربتها ما بين القرنين الرابع والخامس، وقبل سلسلة الزلازل المتتالية مع بداية القرن السادس، زلزال عظيم وقع سنة 349 مع بداية انتشار الدين المسيحي، وظن حينذاك عامة الناس أنه غضب من الله بسبب عبادة الأصنام وعدم الاستجابة للديانة المسيحية، ما دفعهم لاعتناق المسيحية.
تعاقبت الهزَّات الأرضية على طول الساحل الفينيقي، منذ العام 490 حتى العام 520، وأتت على معظم مدينتي صيدا وصور، غير أن تأثيرها على بيروت لم يكن كارثيًا، الى أن ضربها زلزال عام 551 ليدكها من أساسها، ويزهق أرواح ما يزيد عن 40 ألفاً من سكانها.
كان ذلك يوم 9 تموز عام 551 أثناء عهد الملك البيزنطي جستنيان الأول، حيث عاشت المدينة حينها على وقع أسوأ الكوارث الطبيعية بسبب زلزال بلغت شدته 7.5 درجة وسجلت قوته الدرجة العاشرة والتي تمثل درجة عنيفة حسب مقياس ميركالي المعدل، فامتدت موجة عارمة من البحر بعد أن ارتد إلى الوراء مسافة تقرب من ميل، ثم عاد بشكل موجة عارمة (تسونامي) غمرت المدينة كلها وأغرقت البنايات وهدمتها.
عددٌ كبير من المؤرخين والرحالة كتبوا عن زلزال بيروت عام 551 الذي عايشوه، وبينهم الرجل المعروف بحاج بياتشنزا (Piacenza)، حيث دوَّن في مذكرات رحلته عبر مختلف المدن عن خراب بيروت وتحوّلها لكومة كبيرة من الحطام والحجارة ومقتل أكثر من 30 ألف شخص في المدينة وحدها.
من أبرز نتائج هذا الزلزال أنه دمر مدرسة بيروت الحقوقية الرومانية الشهيرة، وأغرق حجارتها في باطن الأرض ومعها أرشيف المدرسة من المناظرات والمحاضرات.
وها هو المؤرخ والشاعر والرحالة اليوناني الشهير أغاثياس Agathias Scholasticus يروي ما حصل آنذاك: “وفي نفس تلك الفترة من فصل الصيف حصل زلزال عنيف في القسطنطينية وأرجاء متعددة من الإمبراطورية، نتج عنه أن سويت أراض كثيرة في الجزر أو على الساحل بالأرض، واندثر سكانها. أما “درة فينيقيا” مدينة بيروت الجميلة فقد أصابها الخراب بالكامل، وأصبحت كنوزها المعمارية الشهيرة في أرجاء العالم أكوام من الحجارة ولم يبق منها شيء إلا بعض بلاط الطرقات والأرصفة”.
وأضاف: “وقد تم سحق العديد من سكانها الأصليين تحت ثقل الأنقاض، وكذلك زوارها من صفوة التلاميذ الذين قصدوها ليتعلموا الحقوق والشرائع. ففي هذه المدينة كان التقليد المتبع لوقت طويل هو الدراسات القانونية، ومدارسها صبغت المدينة بطابع مميّز خاص. أما الناجون من الأساتذة فقد انتقلوا مع مدارسهم إلى مدينة صيدا المجاورة لحين إعادة بناء بيروت”.
تدل النصوص القديمة على أن مدرسة الحقوق كانت بجوار كنيسة أناستاسيس القديمة التي تقع آثارها أسفل كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثودكس في وسط بيروت التاريخية. وعلى رغم المأساة الهائلة، قامت بيروت مجددًا واستعادت مدرستها الحقوقية من تحت الردم عام 554.
بيروت تحترق.. وتندب “بهاءها الرائع”
ما كادت بيروت تستعيد أنفاسها بعد الزلزال، حتى أتاها حريق مدمر عام 560 للميلاد. الشرارة الأولى انطلقت من إسطبل للخيول في الجهة الجنوبية الغربية للمدينة، وسرعان ما امتد إلى كل أرجائها، محولاً المدينة إلى كتلة من الخراب، إذ امتدت ألسنة اللهب إلى غابتها الصنوبرية التي تحاصرها، فخنقت المدينة بمن فيها، وحولت معاهدها ومؤسساتها إلى أطلال. ولأن الرومان كانوا قد صرفوا الكثير على إعادة إعمارها بعد الزلزال، أعرضوا عنها هذه المرة، فبقيت لسنوات طوال دون عمران.
الاجتياح الصليبي
نكبة جديدة اجتاحت بيروت وسكانها عام 1110، وأبطالها هذه المرة الصليبيون. ويروى أن قادة الحملات الصليبية كانوا يمرون قرب بيروت في كل مرة من دون احتلالها، وكانت المعارك تجري على تخومها، غير أن بولدوين ملك القدس عقد العزم على دخول المدينة، فجهّز لها جيشاً كبيراً وحاصرها أحد عشر أسبوعاً من دون أن يدخلها، ولما لم تحضر النجدة من مصر عن طريق البحر، ركب حاكم المدينة قارباً وأبحر فيه تحت ستار الليل إلى قبرص. بغياب الحاكم. ثار أهالي بيروت على قادة العسكر فيها لنقص المواد الغذائية في المدينة، وحصلوا على وعد من بولدوين بالأمان في حال فتحت أسوارها، لكن الأخير وفور دخوله نكث بوعده، وأباح المدينة أمام أفراد أسطول بيزا وجنوى، ليعيثوا فيها خرابًا ودمارًا، قتلاً واغتصاباً، وعلى مدى شهرين.
تمخض الزلزال فولدت “الروشة”
ما عمّق جراح أهل بيروت، زلزال آخر ضربها عام 1261 كان من القوة بحيث أغرق العديد من الجزر البيروتية، وفصل الصخور عن قواعدها، لتنشأ عن هذه النكبة، صخرة الروشة التي صارت أيقونة شاطئ بيروت وأبرز معالمها السياحية وأكثرها استقطابا للزوار والسياح، وهي تتصدّر واجهة العاصمة لتبقى شاهدة على كوارث وزلازل ضربتها على مدى العصور وأغرقت أجزاء منها في البحر، حيث يؤكد الباحثون أن تحت بيروت وأمام شواطئها تقبع “سبع بيروتات” أخرى!
“الوبا” و”الفنا” يجتاحان بيروت
وصولاً الى القرن الثامن عشر الميلادي. بيروت تئن مجددًا وقد ضربها وباء الكوليرا عام 1760 ويقضي على المئات من أبنائها.
سمّى أهالي بيروت والساحل مرض الكوليرا بـ”الوبا” أي الوباء لسرعة انتشاره، أما الطاعون فقد أسموه “الفنا” أي الفناء، لأنه كان يفتك بأعداد كبيرة من البشر، لذا لما بدأ انتشاره من عكا باتجاه الداخل السوري ومنه إلى الساحل اللبناني، كانت بيروت قد احتاطت للأمر بعزل المصابين والناجين كل على حدة، وأقفلت العائلات بيوتها على نفسها، لكن هذا لم يمنع تفشي المرضين، ولأن الاحتياطات الدوائية والعلاجية لم تتوفر كما يجب، فقد نال المرضان من عدد كبير من سكان المدينة، خصوصًا من العائلات التي اعتمدت علاجات دينية وبدائية. وفي نهاية العام 1760، تجاوز عدد الوفيات 350 شخصاً، ومع هذا تبخر “الوباء” وفني “الفنا” وبقيت بيروت.
كارثة كنيسة أبو عساكر
لا يُعرف مكان تلك الكنيسة بالتحديد، لكن المعلوم أن أحد وجهاء البيارتة من الروم الكاثوليك من آل عساكر قد تبرّع ببنائها، وقيل إن التكلفة بلغت حوالى 50 ألف قرش عثماني (العملة المتداولة حينها)، وحين انتهى البناء عام 1760 واستقرت الكنيسة بزخرفة زجاجها الملوّن، اجتمع المؤمنون للصلاة فيها لمناسبة الصوم الكبير، لكن خطأً ارتكبه مهندس البناء في حسابات الأوزان أدى إلى انهيار القبة وجدران الكنيسة على من فيها، وقضى في الحادثة حوالي مئة وعشرين شخصاً من المحتشدين داخلها. فكانت كارثة مروّعة هزت البيارتة عميقاً مسلمين ومسيحيين بمختلف طبقاتهم وفئاتهم.
من الطاعون الى الجدري
عام 1794، تفشّى وباء الطاعون مرة جديدة في بيروت وامتد الى كل لبنان ودام نحو ثمانية أشهر، إلا أن ضرره كان محدودًا لاحتياط الناس منه، لكن ما إن تخلصت بيروت من سموم الهواء الأصفر، عمّها وباء آخر هو الجدري حيث استشرى سريعًا في المدينة وضواحيها وفُقد بسببه أناس كثيرون واستمرت المعاناة حوالى السنة.
يوم حريق الكازاخانة
كان مقر كازاخانة بيروت (تعبير تركي يعني مستودع الكاز) في منطقة المدوّر قرب الأشرفية، وكان يضم مئات البراميل الضخمة التي تكفي حاجة المدينة، ويحضر إليها البائعون مع خزاناتهم التي تجرها الحمير ليوزعوها بالمفرق على السكان. وحدث في إحدى الليالي أن سقط قنديل الكاز في إسطبل الحمير التابع لها، وانتشرت النيران بسرعة، وامتدت إلى مستودعات الكاز وأحرقتها ومنها إلى المباني والقصور المجاورة، واستمر الحريق يومين قبل السيطرة عليه، ولم يسلم من تبعاته سوى كنيسة القديس يوسف كونها لم تكن تتصل بمبان أخرى، وحُرمت المدينة من الكاز لأشهر طويلة، جرى بعدها الاعتماد على التجار بدلاً من مستودع التخزين.
واللافت في الحادثة أن بعض قيود مواليد ذلك اليوم حملت في خانة الميلاد “يوم حريق الكازاخانة” بدلاً من تدوين التاريخ.
ويوم دمّر الطليان مرفأ بيروت
يخبرنا التاريخ أن الدمار الذي شهده مرفأ بيروت في 4 آب ما كان الأول من نوعه، فعلى عهد “العثملي”، وبعد أن علم “البيارتة” بأن الإيطاليين احتلوا طرابلس الغرب عام 1912، تطوّع 300 شاب، وتوجّهوا مع أسلحتهم وعتادهم إلى العاصمة الليبية لمساعدة الدولة العثمانية، وما تأخر الطليان بالرد، ففي 24 شباط 1912، قامت السفينتان الحربيتان الإيطاليتان “غاريبالدي” و”فيروشيو” بقصف ميناء بيروت لتدمرانه تدميرًا شاملاً، وتغرق معه باخرة عسكرية تركية كانت تُعرف باسم “عون الله”، والنسّافة “أنقرة” الراسيتين في مرفاء بيروت ، كما تضرر البنك العثماني قرب المرفأ، والفنادق التي كانت تُعرف باسم “الخانات”.
اجتياح الجراد.. والمجاعة
منتصف القرن التاسع عشر اجتاحت بيروت موجات الطاعون من أوروبا ومناطق متعددة، وتم إنشاء ما عُرف بالكرنتينا، أي المحجر الصحي لمدة أربعين يومًا، وتوفي الكثيرون جراء هذا المرض.
وتوالت في تلك الأيام الشدائد البيروتية، فبدأت بغزو الجراد عام 1915، الذي اجتاح كل المحاصيل الزراعية، ولم يقتصر الأمر على ذلك. فمع نشوب الحرب العالمية الأولى ضُرِب الحصار البحري على بيروت من قِبل دول الحلفاء من جهة، وحصار الأتراك البري من جهة أخرى. وأدى حصار الحلفاء من دخول السلع الآتية من مصر، فيما منع الحصار التركي القمح من الدخول، وترافق ذلك مع إطلاق القوات التركية حملة تجنيد بالقوة عرفت بـ”السخرة” طالت أبناء بيروت. وبهدف دعم المجهود الحربي، صادر العثمانيون كل المحاصيل الزراعية مما أفقر البلد أكثر فأكثر وأصابت المجاعة الكثير من العائلات البيروتية وكل لبنان، ومات الكثيرون جوعًا.
إعدامات 1915 و1916
تركت حقبة جمال باشا (المعروف بالسفاح) أثرًا كبيرًا على بيروت وأهاليها، بسبب «الكمّ» الهائل من الإعدامات العلنية. فقد قام الديوان العرفي الذي أنشأه جمال باشا في عاليه بالحكم على المناضلين ضد الحكم العثماني بالإعدام شنقاً، ونُصبت المشانق في تواريخ مختلفة وبدأت الإعدامات في آب من العام 1915 في ساحة البرج وسط بيروت (ساحة الشهداء اليوم)، تبعتها قافلة أخرى في السادس من أيار عام 1916 في المكان ذاته، ما أغرق المدينة بالدمع والحزن، قبل أن تُحوّل هذه النكبة إلى عيدٍ للشهداء يحتفل به اللبنانيون منذ عقود وعقود ، وبفخر كبير، في السادس من أيار من كل عام.
زلزال 1956.. بيروت تهتز ثلاث مرات
ها هو شبح الزلازل يطل بقرنيه مجددًا عام 1956، وما زال “البيارتة” يتذكرون كيف ضرب المدينة بقوة 6 درجات على مقياس ريختر، وكيف جاء على ثلاث مرات متكررة يفصل بين الهزة والأخرى بضع دقائق، ليهدم 6 ألاف منزل، ويتضرر 17 ألف منزل آخر، ويُودي بحياة 136 مواطناً. لكن “البيارتة” انتفضوا على الكارثة، وبنوا مجددًا ما تهدّم، واستأنفوا حياتهم.
ثورة 1958
كان ذلك على عهد كميل شمعون الذي اختار الإلتحاق بحلف بغداد والوقوف إلى جانب الأميركيين بتمرير مشروع “آيزنهاور” في البلاد العربية، الأمر الذي لقي معارضة شديدة، بخاصة من القوى الإسلامية واليسارية الذين وقفوا إلى جانب مصر، ليفجّر الشارع بإعلان رغبته بتعديل الدستور وتمديد ولايته الرئاسية. وجاء حدث اغتيال الصحفي في جريدة التلغراف نسيب المتني، أشد المعارضين لشمعون، ليصبّ الزيت على النار ويشعل فتيل حرب أهلية، حيث اندلعت أعمال الشغب ونُصبت المتاريس وانتشر المسلحون في الشوارع، واستخدمت سيارات مفخخة استهدفت المحلات التجارية، والفنادق والمؤسسات الكبرى، ما خلّف مئات القتلى والجرحى فضلاً عن دمار كبير وحرائق وخاصة في أسواق بيروت التي أُقفلت تمامًا، ما أغرق بيروت بأزمة اقتصادية كبيرة.
تلك الثورة التي قرأ فيها البعض الشرارة الأولى لحروب لبنان الأهلية، أخمدنها يومذاك استقالة شمعون وانتخاب البرلمان قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسًا للبلاد، ليهدأ الشارع مجددًا ويعود الاستقرار لبيروت ووسطها، ولتعود العاصمة وتعيش عهدًا ذهبيًا اقتصاديًا وسياحيًا وفنيًا، لكن ليس طويلاً…
انتقام الكوماندوز الإسرائيلي في بيروت
وإن تنسَ بيروت فلن تنسى ما حصل في ذاك اليوم المشؤوم في 28 كانون الأول 1968… فمع انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني والذي أبى إلّا أن يحوّل بيروت الى مقر سياسي وإعلامي للمقاومة الفلسطينية، هاجمت قوة كوماندوز إسرائيلية مطار بيروت ودمرت 13 طائرة مدنية لبنانية كانت جاثمة فوق أرضه، في رد عنيف على عملية خطف طائرة إسرائيلية في مطار أثينا على يد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبزعم أن مطار بيروت ينتقل منه فدائيون إلى عواصم العالم لشن هجمات ضد سفارات إسرائيلية.
وعام 1973، وفي قلب بيروت، نفذت مجموعة كوماندوز إسرائيلية من شواطئ البحر، عملية عسكرية عُرفت بعملية فردان أسفر عنها مقتل ثلاثة من كبار مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية، كما قامت بتفجير مقر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ونتج عن العملية إستقالة رئيس الحكومة اللبنانية صائب سلام وتدهور علاقات منظمة التحرير الفلسطينية بالنظام اللبناني.
بيروت تغلي.. هي الحرب الأهلية
كل ذلك بدا مقدمة لما حصل في العام 1975، الأحداث تتوالى وبيروت تغلي قلقاً وتوجساً. وكانت حادثة عين الرمانة واندلاع شرارة الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عاماً، أسفرت عن مقتل واستشهاد ما لا يقل عن 120 ألف شخص.
بيروت وأسواقها الشهيرة دُمرت تدميرًا كاملاً، وتشلّعت أوصالها بين شرقية وغربية. عدا عن تشريد مئات الآلاف من اللبنانيين والنزوح من منطقة الى أخرى، أو الهجرة الى الخارج، وكل ذاك العزّ الذي كان، تبخر وصار في خبر كان. وبيروت التي كانت شاغلة الدنيا عزًا وازدهارًا تحوّلت عنوانًا كبيرًا يتصدّر صحف العالم حروبًا وقتلاً وتدميرًا وتهجيرًا، الى أن حلّ العام 1990، وضعت الحرب أوزارها، وانتفضت بيروت على بؤسها، ولملمت جراحها واستعادت هدوءها واستقرارها لتشهد حركة نهوض وورشة بناء وإعمار هائلة. لكن زلزال من نوع آخر كان يترصدها ويعدها بمزيد من النكبات.. هو زالزال 2005.
اغتيال الحريري
في 14 شباط 2005، زلزال من نوع آخر يهز بيروت ويدمرها معنويًا وسياسيًا واقتصاديًا، ومنذ ذاك التاريخ ما ارتاح لبنان ولا بيروته ولا البيارتة. ذاك الاغتيال الكبير أعقبته سلسلة اغتيالات لشخصيات لبنانية من فريق 14 آذار يجمعها مناهضتها للاحتلال السوري والنفوذ الإيراني المتلبس “حزب الله”.
وهكذا من حرب الشوارع الى حرب الاغتيالات، وبيروت تئن وتتوجع، تتطلع لأيام عزها، تحاول النهوض فيخططون لإسقاطها، لكنها عبثاً تستسلم، والتطورات تتلاحق، تداهمها وتدكّها، من حرب تموز 2006، التي أدت الى مقتل 1000 شخص وجرح الآلاف وتدمير ضاحية بيروت ومعظم البنى التحتية اللبنانية، الى غزوة بيروت الشهيرة في 7 أيار 2008 حين قام «حزب الله» وحركة “أمل” باحتلال العاصمة بقوة السلاح وقتل العديد من المدنيين، وصولاً الى كارثة إنفجار مرفأ بيروت.
وكان انفجار المرفأ
أخيرًا وعساه آخرًا، ها هي بيروت تهتز وترتجف أمام هول انفجار ضخم، صنّفته وكالات دولية الثالث في قوته بعد انفجاري هيروشيما وناكازاكي.
كان ذلك مساء يوم الثلاثاء 4 آب 2020، حيث قضت بيروت ليلة دامية «مصدومة» أمام رعب مشاهد تخطت رعب أفلام نهايات العالم، وإن كانت الانفجارات “مألوفة” في عاصمتنا، إلا أن ما شاهده سكانها في ذاك المساء المشؤوم ما كان على الإطلاق «مألوفاً». فبعد ارتفاع سحابة دخان كثيف، وقع الانفجار الذي هزّ كل لبنان ووصلت ارتداداته إلى قبرص على بعد 240 كيلومترًا من لبنان، لتظهر في سمائه سحابة «عيش الغراب»، التي ترتبط في الأذهان بالانفجارات النووية، تمامًا كمثل السحابة التي علت سماء ناكازاكي بعد إلقاء قنبلة نووية عليها في آب 1945.
ليلة كارثية ما شهدتها بيروت في تاريخها، دمار شامل لف شرقها وغربها ووسطها التجاري، وخسائر مادية مهولة قُدّرت بنحو 17 مليار دولار، مخلّفة وراءها 163 قتيلاً وأكثر من 6 آلاف جريح، فضلاً عن آلاف الجرحى والمشردين وعشرات المفقودين، ليعلنها محافظ المدينة مروان عبود “مدينة منكوبةط، وما أخطأ، فوفق خبراء في المتفجّرات قوة الانفجار عادلت هزة أرضية بقوة 4.5 درجات على مقياس ريختر. لينضم ذاك الإنفجار الى قائمة الكوارث المدمرة التي عصفت ببيروت في القرون الماضية وألحقت بها أضرارًا جسيمة وانتهت أحياناً بإزالتها من الخارطة، قبل أن تنهض، تعمّر وتبني، وتتألق من جديد “ست الدنيا”… نعم، هذه هي بيروتنا، أدمنوا تدميرها، فاحترفت فن القيامة من تحت الردم، تماما طكزهرة لوز في نيسان”.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]