التراجع عن الخطأ من أسمى الفضائل التي ممكن أن يتمتّع إنسان في الدّنيا؛ لكن أن يصبح التراجع عن موقف تحت ضغط التهديد بالقتل أو الترهيب، فهذا ليس بسماوة إنّما أقلّ ما يُقَالُ فيه إنّه أشدّ ضروب الجبَانَة. ولا يمكن لهذه الظاهرة أن تستمرّ في بلد فُطِرَ أبناؤه على حرّيّة الرّأي والتّعبير، لا بل غبنه الفيلسوف شارل مالك هو الذي وضع المادّة 18 من الشرعة العالميّة لحقوق الانسان التي تنصّ على حرّيّة الدين والضمير والمعتقد، وشارك في وضع المادّة 19 التي تتحدّث بالتحديد عن حرّيّة الرأي والتعبير. وكان لمالك الدّور الأبرز في صناعة الاعلان العالمي بالكامِل.
انتشر على مواقع التّواصل الاجتماعي تسجيل لمواطن من بلدة عين قانا يتهجّم فيه على النّائبين محمّد رعد وهاني قبيسي نتيجة لانقطاع الكهرباء والخدمات في بلدته. وما هي إلا ساعات قليلة حتّى عاد هذا الشخص بتسجيل آخر يعتذر فيه من الشخصيّتين اللتين أساء إليهما، والأكثر يعتذر من المرجعيّتين السياسيّتين أي دولة الرئيس برّي وأمين عام منظّمة حزب الله حسن #نصرالله. والملفت أنّ هذه الظاهرة ليست الأولى بل تكرّرت أكثر من مرّة حتّى بات روّاد مواقع التواصل الاجتماعي يسمّونها بظاهرة ” السحسوح”. في دلالة منهم على الحدث قبل وبعد السحسوح، أي المقصود بها تهديد الشخص الذي يقوم بهكذا فعل.
أخطر ما في هذه الظاهرة هو مقدار الذّلّ الذي تُظهِرُ به مَن يقدِمُ عليها. فبعضهم في الماضي بدت على وجهه الكدمات بشكل واضح جدًّا. وبعضهم الآخر تمّ تأديبه بطريقة مذلّة ومهينة جدًّا كقطع أرزاقه مثلاً، أو تهديده بوظائف أحد أولاده، أو دواء أهله أو أيّ شخص مريض في عائلته.هذا النّهج في التعاطي الاجتماعي لا يمكن أن يستمرّ . فللنّاس كرامات. وبعضهم لا يرضى بأن يذلَّ بهذا الشكل، قد يفضّل الموت على ذلك، أو النّفي الإرادي.
هذه الظاهرة ستنتهي حتمًا لأنّ حاجز الخوف قد انكسر منذ ذلك ال 17 تشرين. ولو أنّ بعضهم تراجع تحت وطأة الترغيب أو التهديد. لكنّ صوت الحرّيّة ما زال يقضّ مضاجع المنظّمة المسلّحة ومرَهِّبيها العاملين تحت سطوة سلاحها غير الشرعي. ولا يظنّنَّ أحد أنّ السلاح هو الذي يُنجِحُ هذه الظاهرة فقط، إنّما ذلك يعود إلى إرادة شخصيّة بالاستسلام. وإلا ما هو التفسير لظاهرة المواجهة الرّافضة لهذه الحالة بالمطلق، والتي بدت آخر تجليّاتها على كوع #الكحّالة؟
فال#لبنانيّون قرّروا المواجهة ولن يثنيهم أيّ شيء عنها. لا تراجع. لا استسلام. لا شدّة. لا خطر. لا جوع. لا عطش. لا حاجة. لا عوَز. ولا حتّى أموال الدّنيا ترغيبًا وإغراءً. لقد خسروا كلّ شيء. ولم يعد لديهم سوى هذه الكرامة الشخصيّة، وتلك الحرّيّة الكِيَانيّة. إن خسروهما يعني حتمًا يصبحون جِيَفًا عفنَة تسير بانتظار دفنها. وهذا بالطبع مرفوض، ولا بدّ أن ينسحب على اللبنانيّين كلّهم عاجلاً أم آجلاً على قاعدة النّمذجة بالوطنيّة والكرامة والأهمّ بالحرّيّة.
أمّا الطريق إلى ذلك فتبقى بالخارطة السياديّة التي رسمها الأحرار في لبنان والعالم. وطريقها هي بالمواجهة لأنّها السلاح الأمضى للبقاء. ونعيش اليوم في لبنان أبهى تجليّاتها. والملفت في هذه الحالة بروز فئة من اللبنانيّين تدعو إلى محاورة منظمة #حزب الله، بغية استكشاف مُرادَها الوطني لعلّ وعسى أن تمنّ عليهم بالمشاركة ولو بالفتات. والقاعدة التي يستخدمها هؤلاء تنطلق أوّلاً من خوفهم من سحسوح ما قد يطال رقاب إن علّوا الصوت، وثانيًا من هذا الروح الانهزامي الناتج من يأسهم وعدم مثابرتهم على الصمود والمواجهة.
ولا يدرك هؤلاء أنّه كلّما حاورت الضحيّة جلّادها تغرق في موتها أكثر فأكثر. لذلك، لن نحاور منظمة حزب الله ولا محور إيران تحت أيّ ذريعة كانت. ولو كان لهذا الحوار ياقة باريسيّة. ليس لأنّنا قوم لا يملك ثقافة الحوار، بل العكس تمامًا. إنّ ثقافة الحوار مقلعها من حضارتنا وثقافتنا وأرضنا. لكن أن نخحاور بشروط مسبقة مُعَدَّة للإخضاع ! هذا لعمري قمّة في الانهزام والخنوع والمذلّة. وتاريخ الأحرار في لبنان لم ينسجم أبدًا مع هذه كلّها.
فليدرك “دالايات” الحوار كلّهم، حوارهم بهذا الشكل مرفوض بالمطلق. وظاهرة السحسوح التي تجتاح مجتمعهم لا بدّ وأن ينكسر طوقها عن أعناق الأحرار فيهم، وهم باتوا كثرًا. ولا يعتقدنَّ أحد أنّ التنازلات التي يزمع فريق عون- باسيل على تكرارها عملاً بتاريخه في 6 شباط 2006، قد تحبط عزائم الأحرار، وتدفعهم للقبول بما رفضوه طوال أكثر من نيّفٍ وعقدٍ من الزمن الحديث، كي لا نعود إلى أزمان النّضال البعيدة.
المواجهة ستكون بإعلان تبني المرشّح الوحيد القادر أن يحمل مشروع هذه المواجهة، من دون أن يستطيع محور إيران تعطيل وصوله لأنّه قد لا يحتمل تداعيات هذا التعطيل؛ ولا سيّما فريق عون- باسيل الذي مهما قدّم من تنازلات سيكون هو الخاسر الأكبر. وعلى ما يبدو أنّ اسم قائد الجيش العماد جوزف عون ستعود وترتفع أسهمه على وقع انكسار لظاهرة السحاسيح السياسيّة. ولكن يبقى الترقّب لإعلان صريح من المعارضة اللبنانيّة بتبنّي ترشيحه؛ إلاّ إذا كانت تراهن على تبدّل ما في المعطى الإقليمي، ما قد يجعلها بموضع الأقوى، أو إن لم تستطع تحقيق هذا الهدف، فهل ستعمد إلى الدّفع نحو تدويل أكبر للقضيّة اللبنانيّة، بهدف انتزاع لبنان الآيل إلى السقوط في فم التنين الأصفر؟