عندما طَلَعَ البعضُ بهَمروجَةِ ” كِلُّن يعني كِلُّن ” كنتُ على الضفّةِ المقابِلة، ولم أؤَيِّدْ هذا التَّعميم، ولا زلتُ حتى السّاعة، ليس لأنّني مرتبِطٌ بمرجعيّةٍ سياسيّة، أو بحالةٍ حزبيّةٍ تتعاطى الشأنَ العام، كلّا، بل لأنّ موضوعيّةَ الموقفِ تقتضي نُزوحاً عن الإنفعال، والغوغائيّة، ما يوصِلُ الى الإفلاسِ المنطقيّ، وبالتالي، ينبغي التّعاطي مع هذه المسألةِ بنَهجٍ عقلانيٍّ مُنَظَّم، ليوضَعَ الحقُّ في نصابِهِ، فالوردةُ وإِن حاوطَها الشَّوكُ، يَعفُّ عطرُها عن مَرمَغةِ نفسِهِ بالتّراب.
لمّا كنتُ أستظلُّ التّفكيرَ النّقديَّ الذي يستندُ الى التّحليلِ، والتّعليل، والتّدليلِ ببراهينَ مُقنِعَة، وذلك، للوصولِ الى استنتاجاتٍ لا لُبسَ فيها، كنتُ، دائماً، أتجنَّبُ الهوائيّةَ في التّفكير، والتَسَرّعَ في تفسيرِ الأحداثِ والنّاس وِفقاً لِما يرتاحُ إليهِ هؤلاءِ، على السجيّةِ، أو ما يتطلّبُهُ الظَّرف، ما يجعلُ الحكمَ على الأمورِ نوعاً من التَخَيّلِ والتَوَهّم، وانغماساً في أحلامِ اليقظة، بعيداً عن التّفكيرِ المُستَنير. أنا لا أدّعي فوقيّةً فَهميّةً، أو طوباويّةً عقليّة، فهذا ليس شأني، ولا أضعُ معاييرَ طَبَقيّةً لِما ينزحُ عن الألسنة، ولا أَكيلُ التُّهَمَ لهذا ولذاك، فلستُ على القَوس، ولا أحبُّ أن أكون. لكنّني أريدُ أن أُذَكِّرَ بما يجبُ أن يتَّصفَ به رَجُلُ السياسةِ، عندَنا، وفي أيِّ مكانٍ من الكُرةِ الأرضية، وأتركُ للقرّاءِ أن يُمعِنوا البصيرةَ في المواصفات، ليتّخذوا موقفاً مناسِباً عقليّاً من الذين يتعاطونَ الشّأنَ العامَ، في لبنان، مُستنِدين الى جَدولٍ عِلميٍّ واضح، علَّهم يفرزونَ ما يُسَمّى بالقادةِ الزّعماءِ المُمسِكين بقرارِ الدولةِ بين ” العَنزِة وإِمّ قْرون ” كما يقولُ المَثَلُ الشَّعبيّ.
إنّ أولى صفاتِ رَجُلِ السياسةِ هي الإلتزامُ بالوطنيّة، انتماءً وولاءً، بمعنى أن يكونَ حضورُ لبنانَ ملتَصِقاً بوجودِ الشّخص، وأن يولِيَ هذا الشّخصُ إخلاصَه، ووفاءَهُ، وتأييدَه، ومناصرتَه، للوطنِ الى حَدِّ بَذلِ الرّوح. ولمّا اعتُبِرَ الولاءُ أولويّةً حتميّةً في حيثيّةِ الإنتماء، لِكَونِ الولاءِ قيمةً عُليا ينبغي أن تتحكّمَ في وجدانِ المواطنين، وَجَبَ أن يكونَ الولاءُ مُطلَقاً، ومحصوراً في كيانِ الوطن، وحدَه، من دونِ ولاءاتٍ رديفةٍ مختلفةِ التوجّه، أَخطرُها الولاءُ لبلدانٍ خارجَ الخريطةِ اللبنانيّة. إنّ رَجلَ السياسةِ الذي يَمحضُ ولاءَه لغيرِ بلادِه، هو مُتَصَدِّعُ الإنتماء، ومُدَمِّرٌ لمكوّناتِ الوطن، وخائنٌ سَفيهٌ يغدرُ بسمعةِ البلاد، ومُنقلِبٌ على الدولة، وزنديقٌ مُستبدِلٌ وفاءَه لبلادِهِ بعمالةٍ حقيرةٍ مأجورةٍ لأهدافٍ من شأنِها أن تقضيَ على السيادةِ، وكرامةِ الهويّة…
إنّ ثانيةَ صفاتِ رَجُلِ السياسةِ هي الفِكر، أو النَّهجُ الفِكريّ، فعِلمُ النّفسِ المَعرفيّ يعتبرُ أنّ التّفكيرَ هو أعلى الوظائفِ الإدراكيّة، وهو يُحيطُ بكلِّ العمليّاتِ الذِّهنيّةِ التي يؤدّيها العقل. والتّفكيرُ السّليمُ المُنَظَّمُ هو الذي يعتمدُ على المنطقِ النّاقِدِ بموضوعيّة، مُستنِداً الى مقوّماتِ التّحليلِ الدّقيق، والتّعليلِ ببَيِّناتٍ لا لُبسَ فيها، وصولاً الى استنتاجاتٍ تُبنى، على أساسِها، المواقفُ الموزونة. من هنا، فالتوسُّعُ بالعمليّةِ العقليّة، الذي يقودُ الى التّفكيرِ السّليم، يمكنُ أن يعصمَ الفكرَ عن الخطأ، ويُبعدَ عنه التَشَوُّه. أمّا رَصفُ الكلامِ، وشَقْعُ الخُطَب، بتَفَكُّكٍ سافر، وبثرثرةٍ غيرِ مُجدية، وبزوغانٍ بعيدٍ عن محجّةِ الصّوابِ، ومفهومِ المنطقِ المُقنِع، فليسَ ذلك سوى هلوساتٍ عقيمةٍ تُبَيِّنُ أنّ صاحبَها يعاني من انهيارٍ فاضحٍ على مستوى التّوازنِ العقليّ، بمعنى أنّ الثَّباتَ في الفكرِ، لَديه، معدوم، وأنّ المنطقَ، معه، يكابدُ هزيمةً نكراء.
إنّ ثالثةَ الصّفاتِ هي الإبتعادُ عن ادّعاءِ الطوباويّة، وإلصاقِ التُّهَمِ بالغير، فالنّقائصُ متوفِّرةُ في الجميع، وإِن نِسبيّاً، ولا أَحدَ مُحَصَّنٌ عن الزَّلَلِ والخطأ. والغريبُ أنْ الذي يدّعي النُّطقَ بالحقِّ، وحدَه، لا يرى في غيرِهِ، كلِّ غيرِهِ، سوى الفسادِ، والضّلالِ، والموبقاتِ، ويُصِرُّ على أنّ هذا الغيرَ يأتيها، في حينِ أنّه هو الوحيدُ الذي لم يُصَبْ بهذه الأوبئةِ الخبيثة، وبالتالي، فهو، وحدَه، نَسيجُ النزاهةِ، والعفّةِ، ونقاءِ السّلوك… في الواقعِ، أو غالباً، لنكون مُنصِفين، فإنّ حقيقةَ هذا المُدَّعي لا تخفى عن النّاس، وبعدَ بحثٍ شفّافٍ، ومُنصِفٍ، ومُبَرَّر، تطفو الأدلّةُ لتُبيِّنَ أنّ كلامَه، في كلِّ ظُهور، لا يرمي إلّا الى بَعثِ الضّغائنِ، والعَبَثِ بالعقول، واستغباءِ النّاس، وأنّ يدَهُ ملوّثةٌ بِمالِ الشّعب، فساداً، وسمسراتٍ، وصفقات… وأنّه يغلِّبُ مصلحتَه الشخصيّةَ على مصلحةِ البلاد، وهو أكثرُ ما ينأى عن ادّعاءِ الطوباويّةِ، وعن المُطالبةِ بالقداسةِ في ما بعد !!!!
إنّ رابعةَ الصّفاتِ هي النّضالُ المزدوِجُ، لحمايةِ الكيانِ والدولةِ والنّظام، ولمحاربة الفساد والفاسدين. من هنا، يتوجّب على رَجلِ السياسةِ أن يتمتّعَ بجرأةٍ غيرِ مسبوقةٍ لاسترجاعِ الوطنِ، نظاماً، ودولةً، وسيادةً، وحريّة، من محميّاتٍ تُدارُ بشكلٍ غيرِ شرعيّ، وذلك بإعادةِ الأهميّةِ للمُعطى القانونيّ للدولة، ما يُعرّي عصاباتِ المتسلّطين، البلديّينَ منهم والطّارئين، المتآمرين على سلامةِ البلاد، وأمنِ النّاس. وهذا الموقفُ بالذّات يبدّدُ ما اعتادَ عليه الممسكونَ بزمامِ الأمور، من ارتهانٍ وتبعيّةٍ وتَعَدٍّ على مكوّناتِ السيادة، ويجعلُ شأنَ رَجلِ السياسةِ، شأنَ الرِّجالِ الصّالحين. أمّا معالجةُ جرحِ الوطنِ النّازف، أي دراما الفسادِ ومشتقّاته، فتتطلَّبُ مواجهةً حاسمةً تستندُ الى شجاعةٍ أهدافُها غيرُ ملتبِسة، وهي لَصيقةٌ باستراتيجيّةِ تنظيفِ الدولةِ من السماسرة، والصَّفَقاتويّين، والمختلِسين، والنّاهبين، وجماعةِ المشاريعِ المشبوهة، واستعادةُ أموالِ الدولةِ والناس، ولو اقتضى ذلك انقلاباً على ما أشاعَهُ الملَوَّثونَ من محرَّماتٍ ومحظورات…
لمّا كان السّلاحُ المُتفلِّتُ هو الفتنةَ بعينِها، ويشكّلُ المقصلةَ التي تفرمُ رقبةَ الدولة، وهو أساسُ الفُرقةِ بين شرائحِ النّسيجِ الوطني، وهو عاملُ التّصنيفِ والطبقيّةِ والإستقواءِ والقهرِ ووضعِ اليدِ على مقدّراتِ البلد، وهو المُهَمِّشُ لشرعيّةِ الدولة، وديمقراطيّةِ … كان على رَجلِ السياسةِ أن يضعَ في أوّلِ اهتماماتِهِ إخراجَ الوطنِ من أجندةِ السّلاح، بمواجهةٍ جسورةٍ تُعيدُ.