الصدمات النفسية الجماعية.. تفجير المرفأ أحياها

حجم الخط

كتبت ساسيليا دومط في “المسيرة” – العدد 1743

4 آب 2020، ثمة من فقد شخصاً عزيزاً أو مقرّباً عند وقوع تفجير مرفأ بيروت، وثمة من رحلوا بعد صراع مع الألم بسبب إصاباتهم البليغة. وثمة من كان موجوداً في المناطق التي تأثرت به، إن من خلال المشهد أو الدمار أو الشعور بالارتجاج أو تحطيم الأواني والزجاج والأثاث. فكانت الصدمة النفسية الجماعية. أعراض كثيرة أعقبت الصدمة. فقد عانى الكثير الكثير من الأشخاص من عدم القدرة على النوم واضطراب في الشهية، وكوابيس تتعلق بتكرار المشهد، ناهيك عن الشعور بالاضطراب عند كل صوت ما ناتج عن إغلاق باب أو وقوع أي شيء على الأرض. البعض لم يستعد صحته النفسية السليمة حتى يومنا هذا بعد ذاك التفجير  المشؤوم، ماذا لو حدث شيء مماثل؟ ماذا لو كانوا في مكان الحدث؟ كيف يستطيعون حماية الأشخاص الذين يحبون؟ تساؤلات كثيرة نتجت عن الخوف الذي تملّك الكثيرين، الخوف الذي يظهر في كل مناسبة بسبب أو من دون سبب واقعي.

اجتماعياً نتوارث الصدمات النفسية عبر الأجيال، كما ترى بعض الدراسات بشكل غير مثبت بعد، بأننا نتناقلها من خلال الجينات، من هنا نرى أن الشعوب التي عانت مآسي الحروب والقمع والمجازر منذ مئات السنين لا تزال تعيش تفاعلات نفسية تتعلق بما حدث منذ أجيال مع الأجداد.

ما سبق ذكره لا ينفي أهمية التأثير البيئي والاجتماعي من ناحية التركيز على الألم والظلم والحزن والمشاعر السلبية الأخرى، لكننا نلاحظ كذلك أهمية الذاكرة الوراثية المتناقلة عبر الأجيال؛ فالعائلة التي فقدت شهيداً في بدايات الحرب اللبنانية عام 1975، في منطقة معينة من لبنان، يعيش الأحفاد فيها حالة فقدان، وتربطهم بالشهيد علاقة خاصة، وكذلك الأمر بالمحلة التي استشهد فيها، ويتفاعل مع ذلك عاطفياً ونفسياً.

يروي طارق شعوره تجاه والده الذي توفي منذ عدة أعوام، وكان من عداد مصابي الحرب، إذ فقد أحد أطرافه خلال الحرب الأهلية. ويقول: “ما فيني إنسى وجع بيي يللي ما كان قادر يمشي لأنو خسر إجرو، أوقات بحس إني مطرحو، حتى لو صار عمري 40 سنة وصار عندي ولاد، حتى ولادي اللي صاروا كبار، عندن نقطة ضعف عا كل شخص أصيب خلال الحرب. كلنا هيك بالعيلة، مش بس أنا وولادي، كأني أنا فقدت إجري مش بيي. صحيح بيي كان بطل، وتحمل اللي صار معو بقلب كبير، بس كان نفسيا موجوع، كان عندو عزة نفس، بس كنت شوف العجز أوقات عندو؛ بيي ورفقاتو تركو فينا شعور بالقلق، بالحاجة إنو نضل نحمي حالنا، بالخوف من بكرا. بيي راح بس الوجع بعدو فينا، بيي ورتني الوجع النفسي وعدم الإستقرار والأمان وعزة النفس والكرامة”.

وجع والد طارق، وطارق وأولاده “مش رح يخلص هون”، محفور في ذاكرة من عاشه، وتركه أمانة فيذاكرة الآخرين من معارف وأحباب وورثة.

في ما خص تفجير المرفأ، الذي تسبب بسقوط 233 ضحية وجرح ما لا يقلّ عن 7000 شخص، وما أثاره من أعراض نفسية لدى من عاش لحظات الصدمة والحزن والغضب، إضافة الى الشعور بعدم الاستقرار والأمان، والقلق الشديد والخوف من الموت، وعدم ثقة بالأيام القادمة وبالمسؤولين، والضياع بين حب الوطن وتركه خوفا من حدوث الأسوأ. وبين الوجع الجسدي والنفسي للشعب، بين الخسائر بالأرواح وبالممتلكات، سؤال يطرح نفسه: كم من والد طارق لدينا؟ كم من أليكساندرا وجو ورالف وسحر…؟ اللائحة تطول. تطول لائحة أسماء الشهداء والمصابين بشكل واضح ومرئي، ولائحة الأعراض النفسية بشكل غير مرئي.

باختصار، صدمة تفجير المرفأ نفسية جماعية، أعادت إلى الأذهان كل الصدمات التي سبقت، وأحيتها من جديد. صدمة آثارها النفسية لن تنتهي مع إعادة الإعمار واستحداث المنازل والشوارع، بل ستحملها الأجيال من جيل إلى جيل؛ أما الخطر فيكمن بالأعراض التي سوف يعانون منها، بشكل غير مبرر وغير مرتبط بالظروف الملموسة التي سيعيشونها، من قلق وخوف غير مبررين، من عدم ثبات واستقرار نفسيين بالرغم من توفر كل العوامل العملية لعكس ذلك.

نتجت عن تفجير مرفأ بيروت آثار سلبية على جميع المستويات، تشوهت الأبنية والمنازل والسماء والأجساد والوجوه والنفوس، نهضة العمران قائمة، وقد غاب من غاب، وقد قام عدة فرقاء بإصلاح المنازل من الداخل والخارج، واستبدلت المفروشات؛ من الناس من أنهى علاجه ومنهم ما زال يعاني، لكن ماذا عن الآثار النفسية لدى الجميع؟ لدى الشعب اللبناني المصاب بصدمة نفسية؟

يحتاج الشعب اللبناني إلى علاج نفسي جماعي، نكاد لا نستثني أحدا من هذه الحاجة، إلا أن هذه الحاجة الملحة لم تظهر مع تفجير المرفأ في 4 آب 2020 بل منذ بدايات الحرب الأهلية، منذ ما قبل 1975، إذا لم نرجع إلى ما سبق هذا التاريخ بسنوات طويلة. نحتاج كشعب للعلاج النفسي للتخلص من الخوف على أنواعه، لاسترجاع الشعور بالاستقرار والأمان، لتخطي مراحل الحداد التي علقنا بها منذ تاريخ طويل. نحتاج إلى علاج نفسي لتقبل ما عانى منه أجدادنا وآباؤنا، لنسترجع استقرارنا وصحتنا النفسية. نحتاج كشعب لبناني إلى حسن إدارة إرث الآباء والأجداد النفسي، كي نتمكن من المصالحة مع الذات والتعامل مع ذاكرتنا الجماعية بموضوعية ونحيا متحررين بالحد الأدنى من القلق والخوف والحزن… واللائحة تطول.

 

ساسيليا دومط  ـ عالمة نفس إكلينيكية ـ رئيسة دائرة المحللين والمعالجين النفسيين في مصلحة المهن المجازة في حزب “القوات اللبنانية”

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل