لما كانت المؤامرة على الوطن مستمرّة، لنهشه، وانتدابه، والهيمنة على قراره، وتضييع كيانه، وتهشيم هويّته، وسحق أهله، كان من الطّبيعيّ أن يستمرّ النّضال يقظا، مواجها، متماسكا، حيّا في الوجدان والأيدي، ليقهر القهر، حتى لا يخسر النّسر معركته مع الثّعبان.
ولمّا كانت الدّيانة الوطنيّة حالة ترتقي بالحياة، تلبس الوطن ما يجب من أصالة في الولاء، وغنى في الانتماء، كان من الطّبيعيّ أن تجد لها حماة قادرين على القول والفعل، كلّما نبض فيهم قلب، وانفتحت عين، وكلّما انتصب في وجه الوطن خطر.
ولمّا جعلوا الوطن سجنا للقضاء على الحريّة البهيّة، بغريزيّة مسعورة، وتزمّت كسيح، مستورد من عصور الإنحطاط، والجهل التّاريخيّ، وما قبل، كان من الطبيعيّ أن تنهض همم منقذة، تطلّعاتها حضاريّة تعكس الفحوى الزّمانيّ الرّاقي، ملتزمة بثقافة الحياة، هذه التي لها أصول راسخة في النّفوس، والتّراث المضيء.
ونسأل: هل ينتبه اللّبنانيّون، كلّ اللّبنانيّين، لهذه الحقائق؟
عندما أشير الى القوّات اللّبنانيّة، لا أعبر الى المناخ المثاليّ، مكتفيا بمجرّد الكلام على الكلام، بطابع مدحيّ، وبتعاطف نشط، ولو بأدب فخم جميل. لكنّني أقارب حالة القوّات، بالوقوف على رموزها، وأبعاد وجودها، بموضوعيّة تسقط الإنفعال، والخطابيّة، والتّعابير الشّعريّة المستقدمة من الحقول المعجميّة، وذلك، احتراما للحقيقة.
القوّات اللّبنانيّة روح ثوريّة لها حافز هو رسالة وأغراض. وهي تتغنّى بهذا الحافز الموجّه، في إطار نظرة تفتح آفاقا لنتشيط النّضال الذي يرتقي الى مقام الإنصهار بالوطن، انصهارا مرصوصا يخصّ القوّات، تحديدا، والبعض ممّن نهجوا نهجها. ولا غلوّ، أو تطرّفا في اعتبار القوّات اللّبانيّة مدافعا رئيسيّا، إنْ لم نقلْ، وحيدا، عن قيم المواطنة، والتشبّث بالأرض، في وجه المستقوين العنصريّين السّاعين الى تدمير الوطن، حجراً وبشراً وكيانا.
لم تسقط القوّات اللّبنانيّة المنطق الجهاديّ بالرّغم من أقاويل كثيرة تشير الى تفكّك هذا الوضع التّكتيّ في الأداء القوّاتي. لكنّ القوّات التي تأبى الإنغلاقيّة، وتقيم وزنا لمقولة ” لكلّ مقام مقال “، هي مؤمنة بالإنفتاح على الأفكار، والرّؤى، والطّروح الوطنيّة التي تأخذ بالإعتبار مصير البلاد والعباد، والمحافظة على الدولة، وعلى الكيان سيّدا كريما، ولا تتزلّف للّذين يغضبون الوطن، والنّاس، بالإرهاب، والإكراه، والظّلم، والتسلّط، والهيمنة… فهذا، بالذّات، ما يجعلنا ننازع في صقيع ما يسمّى وطنا.
تتمتّع القوّات اللّبنانيّة بشخصيّة لها جوهر وطنيّ صلب، قوامه الإيمان بلبنان على قدر ما يريده لبنان. لذلك، لم يصدرْ عن هذه الشخصيّة سوى ما يمتّ للروحيّة الأخلاقيّة الوطنيّة السّامية، وللفكرة الوطنيّة الصافية النقيّة، من هنا، قلّما نقع على قمح وطنيّ لا يكون معظمه من بيدر القوّات.
لم تنف القوّات اللّبنانيّة انتماءها الدّينيّ، فشعار الصّليب واضح، لكنّها، في كلّ مواقفها، والتزاما بوعيها لكلّ أبعاد جوهر الدّيانة، لم تشوّهْ مواقفها بالتزمّت، ولم تتخّذ الإنتماء الدينيّ وسيلة للكسب، ولتنفيذ الأغراض السياسيّة، إيمانا منها بأنّ الغاية من الدّين هي إيجاد مستقرّ للنّفس في الله، لذلك، فمنْ يعي جوهر الدّيانة، يأبى أن يستغلّها، ويجعلها وسيلة رخيصة لتحقيق أهدافه. من هنا، بنت القوّات نضالها الوطنيّ، والعقائديّ، على قوانين أساسها المصلحة العامة، قبل مصلحة المعتقد، بحيث تتغلّب مصلحة المجتمع على مصلحة الدّين، والطّائفة، والأصوليّات. وهذا الموقف ليس تأويلا للعقيدة الدينيّة، بقدر ما هو استيعاب لذخائرها، وجوهرها الذي يتبنّى روحيّة الحريّة، والإنفتاح، وصلاح المجموع، وفرض الخير، والنبل في التّعاطي، والعيش الآمن، بعيدا عن رنين العصبيّات، والإنغلاقيّة، وطرق الفتن…
القوّات اللّبنانيّة أطروحة وطنيّة ناضجة، مبرّأة عن الزّيف، والأهواء، لها علاقة كيانيّة بالوطن، وبالوجدان الشّعبيّ، فلبنان هو شغلها الشّاغل، نضالا، ودفاعا علنيّا، وبصوت عال، وتلاحما قاد الى التّضحية، وقوافل الشّهداء، من هنا، استطاعت القوّات، بسلوكها، أن تؤكدّ على أنّ هذا التّلاحم بالوطن، يشكّل، وحده، عامل بقاء، وأنّ النّضال هو التدبّر الصّحيح للحفاظ على لبنان سيّدا، حرّا، نهائيّا، ثابتا في الزّمن.