كتب أمجد اسكندر في “المسيرة” – العدد 1744
القداس السنوي لشهداء المقاومة المسيحية، ما هو إلّا نداء شارل مالك: إن ننسَ لن ننسى. لن ننسى شباباً جاؤوا من بيوت بعيدة ليموتوا دفاعاً عن بيوت بعيدة. أن تكون شهيداً في “القوات اللبنانية” ليست نهاية مطاف، وليست راحة أبدية.
أنت واحد في قوافل الشهداء القدماء. أنت المقتول، والبيزنطي يسألك لماذا تركت أنطاكية؟ أنت المتمرّد، والعربي لا يعرف لماذا أنت هنا؟ أنت الفدائي، وجارك المسيحي لا يعرف لماذا ريشارد نجاريان هو شهيد في معركة قنات؟ من بين الأسباب، إنّ ريشارد كان يعلم علم المتيقن، أنّ جيش النظام السوري يحاصره بدبابات ومدافع وهو لا يملك إلّا سلاحاً فردياً، وعلى رغم ذلك تكبّد عناء الرحلة إلى قضاء بشري.
أنت المُبصر بين العميان، وقريبك لا يفهم لماذا استشهد سمير وديع قرب جسر الباشا؟ من بين الأسباب، أنّ سميراً لم يقبل بأن يُساء إلى سجل رفاقه، الشهداء منهم والأحياء. وكيف لروح سمير وديع أن تستكين وهو مَن حارب الإقطاع السياسي، فاغتاله هوس القطيع؟
نعم، يموت شهداء “القوات اللبنانية”، “ليحيا لبنان”. نريد للبنان أن يحيا، لأنّ لبنان لم يكُن يوماً على قيد الحياة! نريد له أن يأتي إلى الحياة. وصودف أنّنا نتحلّى بشجاعة عظيمة، لنموت من أجل فكرة لم تتحقّق يوماً. شهيد “القوات اللبنانية” يموت فداء المستقبل الآتي، ولا يموت لاسترداد مُلك أو مملكة. غيرنا يريد أن يعود تاريخُه، ونحن نُسرع إلى حتفنا ونثير غباراً وراءنا. غبارنا تاريخ مجيد لكنّه غابر، ونحن عابرون في الزمن وفي الأرض وفي الحرية وفي الموت.
شهيد “القوات اللبنانية” قطع بطاقة سفر إلى المستقبل بلا عودة. ليست في ماضينا جيوش ومجازر واستعباد للآخرين. ليست في ماضينا قصور وقلاع وساحات وميادين. ماضينا شجر زيتون وكروم عنب، وبيوت سقوفها تراب وأبوابها واطئة لكنّها على قمم الجبال. المشرق على مرمى نظرنا، وحيثما رمانا التاريخ جئنا واقفين.
لبنان عند “القوات اللبنانية” ليس أرض ميعاد، إنّه وعد بوطن. لبنان عند شهداء “القوات اللبنانية”، ليس أمّة وليس قومية وليس دولة. إنّه مجموعة أديار، وحول هذه الأديار أرض وشعب. هناك دير ماروني، ودير أورثوذكسي، ودير سنّي، ودير شيعي، ودير درزي! أديار مفتوحة بعضها على بعض. لبنان أرض بأديار كثيرة! لم يصمد قصر لملك أو محتلّ على هذه الأرض. وحدها الأديار صمدت. من قصور الملوك صدرت قرارات الحرب والموت والاحتلال.
ومن غرف أديار الطوائف وصوامعها وحوزاتها، صدرت كتب البطريرك الدويهي، وتعاليم الإمام الأوزاعي، ورسائل الإمام مهدي شمس الدين. ليس في تلك الكتب ما يدعو إلى الكراهية والظلم، ولكن كلّما أراد مغرور بيننا تحويل أرض الأديار إمارة له، أو دولة لمحاسيبه، تقاتلنا.
قال الأب ميشال حايك: “ليست الوثائق هي التي تصنع الحقائق، الروح هي صانعة الحقائق”. لقد ظلمتنا كتب المؤرخين وصحافة الحاقدين، وروايات الملفّقين، وعلى رغم ذلك بالروح ننتصر ونبقى ونستمر. قال سعيد عقل: “سوف نبقى لا بدّ في الأرض من حق/ وما من حق ولم نبق نحن”.
نحن إذاً وديعة الحق في هذا المشرق. نحتاج إلى هذا العيار من الودائع لنموت ونستشهد. لا نموت فداء نظام اقتصادي، أو عقيدة تمزج الجغرافيا بالتاريخ. ولا نموت كرمى لدولة قال عنها شارل مالك: هي مؤسسة بين المؤسسات ويجب أن لا تكون “مؤسسة المؤسسات”.
نحن لا نريد أن نموت ذوداً عن خطة تنمية عادلة وعصرية، وفي سبيل شق طريق أو بناء محطة كهرباء. نحن لا نريد أن نموت من أجل الشرطة والجيش والقضاء. ببساطة نحن لا نريد أن نموت فداء أيّ شيء. كل ما نريده أن لا يُفرض علينا ما ليس من اقتناعنا، وإذا كان الموت هو الثمن فلا بأس.
ما مات شهداء “القوات اللبنانية”، لأنّ “القوات اللبنانية” أرادت دولة لنفسها، أو سلطة لأفرادها. ماتوا لأنّهم أرادوا للمسيحيين أن يغنّوا ويصلّوا بصوت عال. ماتوا أيضا دفاعاً عمّن لا يحب الصلاة ولا يحبّ الغناء، فلا يُرمى بحجر. ماتوا لكي لا نُضمِر أفكارنا بل لنعبِّر عنها. ماتوا ليقلّلوا من الأفعال المجهولة في لغتنا، ومن الضمائر المستترة في خطاباتنا.
“القوّات اللبنانية” لا تريد تبديل وظائف الجسم البشري. العين يجب أن ترى. اللسان يجب أن ينطق. الأذن يجب أن تسمع. الشفاه يجب أن تبتسم. الخد يجب أن يُقبّل. اليد يجب أن تُصافح وتكتب وأحياناً يجب أن تصفع! والأهم والأهم، أن يكون القلب مضخة للدم، لا مستودع الأفكار ومخبأها. لا، لبنان ليس وطناً نهائياً.
أنتم مختلفون على بدايته وسبب وجوده، فكيف اتّفقتم على نهائيته؟ لبنان يمكن أن يكون “فكرة”، أو “حلماً” أو “مدينة فاضلة”، المهم أن يكون في مرتبة سامية يصعب الوصول إليها. أمّا الوطن فهو في متناول الجميع. مستبدّ يمكن أن يقيم وطناً، ومستبدّ يأتي بعده يمكن أن يمحوه. “لبنان الوطن” لا شيء يمنع أن يصل بحدوده إلى عريش مصر، ولا أنقى من أن يعود إلى وادي قنوبين.
شهداء “القوات اللبنانية” لم يموتوا من أجل أرض. ولم يموتوا من أجل مكاسب في الدساتير المتعاقبة. ماتوا “من أجل القضية”. ولكن ما هي القضية؟ قضيتنا أن التاريخ أرادنا قلّة بين كثرة. أرادنا أن نَنقُضَ الفكر الآحادي، إلى درجة أنّنا نرتاح في أيام الآحاد. أرادنا أن نُقوِّضَ شرعية الفكر الأكثري إذا ما ساد أو استبدّ هذا الفكر. الأكثريات عربة أحصنة جامحة على غير هدى، ونحن الفوارس.
للإشتراك في “المسيرة” Online:
http://www.almassira.com/subscription/signup/index
from Australia: 0415311113 or: [email protected]