هل دخلنا في مرحلة جديدة لاعتماد نظام نقد وسعر صرف جديد في لبنان، ونتقدم أكثر فأكثر نحو الدولرة الرسمية الشاملة؟ السؤال يفرض نفسه على خلفية مشروع الموازنة العامة للعام 2024 الذي أعدته وزارة المال وأرسلته إلى مجلس الوزراء لمناقشته وإقراره. واللافت أن مشروع الموازنة العامة للعام المقبل، تضمّن ضرائب ورسوم تُدفع بالدولار الفريش لتغذية خزينة الدولة، ما يجعل احتمال الدولرة الرسمية الشاملة واقعاً ممكناً ولم يعد من المحرّمات.
بالتالي، إن تم إقرار الموازنة العامة للعام 2024 في مجلس الوزراء وتم التصديق عليها لاحقاً في مجلس النواب، تكون الحكومة عملياً في وضعية من يعترف بالدولار كعملة معتمدة لتسديد المتوجبات الضرائبية والرسوم إلى جانب الليرة اللبنانية، وتؤشر بتوجهها هذا إلى أنها لم تعد ممانعة في اعتماد الدولرة الرسمية الشاملة، كإحدى الحلول أو الوسائل التي تساعدها على مواجهة الأزمة.
البروفسورة في كلية العلوم الاقتصادية في جامعة القديس يوسف والمتخصصة بالسياسة النقدية سهام رزقالله، توضح، أنه “منذ بداية الأزمة ظهرت طروحات عدة حول ضرورة إعادة النظر بنظام سعر الصرف في لبنان بعد السقوط المدوي لسياسة تثبيت سعر الصرف على الـ1500 ليرة. وأنه لا يمكن الاستمرار بحالة الفوضى القائمة وتعدد أسعار الصرف، مع صعوبة الاتجاه نحو تحرير سعر الصرف في بلد جداً مدولر، (فوق الـ80%)، وخطورة ذلك في ظل الوضع القائم، كما كنا قبل الحرب، لكن حينها لم تكن نسبة الدولرة إلى هذا الحدّ”.
تضيف رزقالله: “بعد سقوط سياسة تثبيت سعر الصرف الذي كان قائماً بشكل أساسي على تدخل المصرف المركزي في سوق القطع، من الصعب استعادة ثقة الناس بأن هذه الأداة قادرة على ضبط وتثبيت سعر الصرف مجدداً على أي مستوى أو رقم، لأن الناس تعلم أن البنك المركزي لا يملك احتياطيات صافية له بما يكفي، وما تبقى من احتياطي إلزامي لا يسمح له بتدخل مستدام”.
تتابع: “الجميع يعلم أنه بين فترة وأخرى يحصل استقرار هشّ، ناتج عن تدخلات معينة، أو تدفقات موسمية للدولار إلى لبنان، وعند الحاجة إلى الدولار بعد انقضائها يعاودون اللجوء إلى البنك المركزي، كما حصل مؤخراً من خلال شراء المصرف المركزي للدولار من السوق لتأمين معاشات موظفي الدولة لشهر آب الماضي”.
رزقالله تنوِّه، إلى أن “طروحات عدة قُدِّمت منذ البداية للحل، لكنها ووجهت برفض صارم في المرحلة الأولى، وكان من شبه المحرّم القول إن هذا الوضع لا يصح لمعالجتة إلا الحلول الجذرية، أي إما اعتماد الـ currency board وإما الدولرة الرسمية الشاملة، فهذا كان محرّماً الحديث فيه وTaboo، لكنه انكسر اليوم”.
تضيف: “الدولة تكسر هذا الـTaboo اليوم إنما بشكل غير مباشر. ففي المرحلة الأولى تم السماح بالتسعير بالدولار، وفي مرحلة ثانية إتاحة إمكانية الدفع بالدولار للناس ونقاط البيع تردّ ما يبقى من المبلغ المدفوع بالدولار، أي تم السماح باعتماد الدولار كعملة تبادل في التعاملات اليومية. وبالطبع، الإدخار من الأساس يتم بالدولار”.
كما تلفت في السياق ذاته، إلى أن “النقطة الأخيرة التي كانت مطلوبة كي تصبح الدولرة رسمية، هي الضرائب والموازنة العامة للدولة، وهذه ما تميّز بين أن يكون بلد ما مدولراً لكن بشكل غير رسمي، حتى ولو بشكل شامل، أي بين أن تكون الدولرة رسمية أو غير رسمية. فهناك 4 تصنيفات للدولرة: جزئية غير رسمية، أو جزئية رسمية، أو شاملة غير رسمية، والمرحلة الأخيرة الدولرة الرسمية الشاملة”.
رزقالله تشير، إلى أن “الدولة لا تعترف صراحة حتى الآن أن الدولار سيكون عملة رسمية إلى جانب الليرة، لكن ما تقوله اليوم من خلال الموازنة العامة المقترحة للعام 2024 واضح ولو بشكل غير صريح، إذ لم تقم بتعديل قانون النقد والتسليف الذي ينص في مادته الأولى على أن العملة الرسمية للجمهورية اللبنانية هي الليرة ولم يضيفوا إليها عبارة (والدولار الأميركي). علماً أن القاعدة في علم الاقتصاد تقول إن العملة القوية تطيح في النهاية بالعملة الضعيفة”.
لمزيد من التوضيح، تقول رزقالله: “أي أنه إذا تقرَّر اعتماد عملتين لتسديد الضرائب والرسوم، كما هو مقترح، فالبقاء عملياً للدولار الذي سيطيح بالليرة الضعيفة، حتى ولو لم يتم إعلان ذلك بشكل رسمي. والبرهان أن الناس لم تعد تتهافت على الصرافين طالما أنها تدفع وتقبض وتتعامل بالدولار، فلم تعد بحاجة لتصريف الدولار إلى ليرات والقيام بكل هذه الدورة للدفع مقابل تعاملاتها اليومية، وصولاً إلى موظفي الدولة والقطاع العام الذين باتوا يتقاضون معاشاتهم بالدولار بل تم تحويل حساباتهم المصرفية إلى الدولار”.
على ضوء ذلك، تتابع: “أصبحنا أمام واقع currency mismatch. أي من ناحية كل نفقات الدولة بالدولار، وكل إيراداتها بالليرة من ناحية ثانية. بالتالي باتت مضطرة لتحصيل إيرادات بالدولار، خصوصاً أن البنك المركزي بإدارته الجديدة رفض استخدام ما تبقى من الاحتياطي الإلزامي، بالتوازي مع رفض استمرار طباعة المزيد من الليرة لشراء الدولار من السوق وتمويل الدولة، كما حصل اسنثنائياً في شهر آب الماضي لتأمين معاشات موظفي القطاع العام، لكن ماذا عن الأشهر المقبلة؟”.
كما تلفت، إلى أن “الدولة أمام واقع نفقاتها التشغيلية بالدولار، مضافاً إليها معاشات الموظفين التي باتت بالدولار ولا تجرؤ على إعادة دفعها بالليرة خوفاً من ردات الفعل، ما يعني أن كل نفقات الموازنة العامة بالدولار فيما إيراداتها بالليرة، باتت مجبرة على تحصيل إيرادات بالدولار. بالتالي، إما تلجأ الدولة إلى المصرف المركزي كما تعوَّدت للسحب من الاحتياطي، أو ليقوم بطبع ليرات إضافية لشراء الدولار من السوق، وطالما الأمران مرفوضان من قبله، أصبحت الدولة ملزمة بجباية الضرائب بالدولار”.
رزقالله تعتبر، أن “الدولة وصلت إلى مرحلة، أنها حتى ولو لم تكن تقرّ صراحة حتى الآن بالدولرة الرسمية الشاملة التي كانت (تقوم القيامة) على من يطرحها، باتت مكرهة على اعتماد الحل الصعب: إما currency board وإقرار قانون إنشاء مجلس نقد، وإما السوق سيفرض الدولرة الشاملة التي ستُضطر الدولة في النهاية إلى الإعتراف بها رسمياً، أي الدولرة الرسمية الشاملة وجباية الضرائب بالدولار، حتى ولو بقيت إمكانية التسديد قائمة للمكلّفين للدفع بالدولار أو بالليرة على سعر السوق”.
رزقالله تشدد، على أن “ذلك يعني الإقرار، وإن بشكل موارب، بأن الدولار أصبح أيضاً عملة رسمية مقبولة في الدولة اللبنانية، حتى ولو لم تقرّ بذلك بشكل رسمي وصريح من خلال تعديل قانون النقد والتسليف، تجنُّباً للبلبلة السياسية والمزايدات والترددات المحتملة. ونحن في النهاية ننتقل إلى نظام صرف جديد فرضه الواقع باعتماد عملتين رسمياً، لأن السوق فرض الدولرة الشاملة ولو بشكل غير رسمي وحشر الدولة”.
تضيف: “تلقائياً، حين تصبح فاتورة المستشفيات والسوبرماركت والمولد وحتى كهرباء لبنان بالدولار والمتعهدون يرفضون التعاقد مع الدولة إن لم تكن العقود بالدولار، وغيرها، ستقول الدولة إنه طالما كل نفقاتي بالدولار ولا أجبي بالدولار أنا مضطرة لإيجاد وسيلة لتمويل النفقات”، لافتة إلى أن “هذه الوسيلة كان يمكن أن تكون بأقل كلفة لو اعتُمدت من سنة وسنتين ومنذ اندلاع الأزمة. أي لو اعتُمد الـ currency board أو الدولرة الرسمية الشاملة منذ البداية، لما كانت الكلفة باهظة وقاسية إلى هذه الدرجة، ولما كنا وصلنا إلى هذه المرحلة وبقي لدينا احتياطي نقدي كبير بالدولار لدى المصرف المركزي”.