أيلول يا عيون الأحبّة…

حجم الخط

كتبت فيرا بو منصف في “المسيرة” ـ العدد 1744

كيف تتحول مناسبة حزينة الى شلال رجاء وكل ذاك العنفوان “لتبقى لنا الحرية”؟! في تاريخنا المقاوم لم يكن ذاك مجرد شعار، كانت حكاية حياة نعيشها بيومياتنا، كانت حكاية نضال يومي مبلّلة بالدم والعرق والانتصارات. رحلوا لتبقى لنا الحرية، رحلوا ليكون استشهادهم وزنات المقاومة اللبنانية، تحافظ عليهم بدموع العين ويحافظون على إرثهم بعبق السماء. قرع الجرس، دخلت “كشافة الحرية” اصطف الكهنة، جلس الحكيم والرفاق، ووقفوا هم عند الأبواب بين الناس يتجولون، رفضوا الجلوس، “نحن أصحاب العيد والكل مدعو معنا الى ذبيحة تُقام على شرف استشهادنا” قالوا… وجلسنا جميعًا نحكي معهم عنهم، عن بعض قليل قليل من حكايات أبطال…

سنة بعد سنة، عمر بعد عمر، يقف شهداؤنا في المكان ذاته يستقبلون صلواتنا، شهداء على مر زمن المقاومة اللبنانية، منهم مَن تعتّق في زمن استشهاده، ومنهم مَن انضم جديدًا الى قوافل العز تلك. كيف يكون في الموت عزًا؟! “حين نرحل لتبقى لكم وللوطن الحرية” يجيب الشهيد. أعجبهم الشعار، هو يختصر معنى مسيرة مقاومتهم بكلمات قليلة.

3 أيلول 2023، انهمر أيلول حبًا وصلوات ومواسم فداء امتلأت منها كوارة المقاومة قمح حرية ومواسم كرامة. تراقب المشهد في معراب، شهداء يحومون ومشاريع شهداء يصلّون! لا تستغربوا، نعم كلنا مشاريع شهداء في هذه الأرض المنكوبة باحتلالها وبحكامها. لكن لا بأس فمن أعطى روحه فداء عن الجميع على مر أجيال وأجيال، لن يتردد حين يصل الوطن الى أسوأ أزمانه على الإطلاق. “نحن دائمًا لها” يقول المقاومون. ألا تشبعون يا شباب من الاستشهاد؟ “طالما الأرض عطشى لنا فنحن دائمًا لها لتبقى لنا الحرية”، يجيبون.

“أوقات كتيرة شهداءنا بيخلّونا نتمسك أكتر بقضيتنا، ما فينا نستسلم، لأن كل ما يحصل بالبلد يجعلنا أكثر تصميمًا وعنادًا للمواجهة. ما فينا نستسلم لأن عنا هالقد شهدا، وهذا وفاء والتزام عميق ومقدس تجاههم، وهذا أكبر حافز لبقائنا في النضال والمقاومة”، يقول إميل مكرزل، الأمين العام لحزب “القوات اللبنانية”.

في كل سنة ننتظر هيك بلهفة الحنين الموجع، أيلول الشهداء في معراب، ماذا يشدّنا الى فوق؟ هو قداس وكلمة سياسية للحكيم، فلماذا يكون الانتظار على حفافي الشوق دائمًا؟! لا ليس مجرد قداس ولا هي كلمة الحكيم المنتظرة وحسب، إنما هي لهفة اللقاء بشهدائنا. هو لقاء مباشر. صدقوا، هو لقاء مباشر معهم ومع نضالهم ومع بدلاتهم المضرّجة بدماء الحب تلك، التي سالت على خدود لبنان لتبقى له عيون خضراء، وسهول خضراء، وقمم عالية ما بتنطال.

“الشعار أصاب المرحلة التي نحن فيها تمامًا، يعني أنهم استشهدوا لنبقى نحن أحرارًا، وها نحن كل سنة نضوِي على شهادتهم، خصوصًا أننا صرنا مستهدفين أكثر وأكثر وبشكل لافت، لأن إذا انتشلنا “القوات اللبنانية” من المشهد السياسي في لبنان، يعني لبنان رح يبطِل موجود، نحن حجر العثرة في وجه مخططاتهم الجهنمية ضد لبنان، لذلك استشهادهم كان عن جدّ لنبقى أحرار وما تروح الشهادة ضيعان”، يقول شربل أبي عقل، رئيس جهاز الشهداء والمصابين في “القوات اللبنانية”.

عندما تخبط دعسات شباب وصبايا “كشافة الحرية” في تلك الأرض الصلبة، نعرف أن شهداءنا راحوا لتبقى لنا الحرية، وعندما يشارك طلاب مصلحة الطلاب في “القوات” في تلك المشهدية النبيلة المفعمة بالإيمان والوفاء، نعرف أنهم ما راحوا لأن بعدن في أجيال تسلّم أجيال وفي قوات.

“المقصود كان من المشاركة الطلابية بقداس الشهدا هالسنة، هي محاولة تواصل بين الأجيال، شبابنا وصبايانا بحاجة للاحتكاك بتاريخهم، كان يجب أن يكونوا من ضمن المشهدية ليكون لهم ذاكرة أنهم شاركوا بقداس الشهداء، هذا ما شجعهم أكثر وأعطاهم دفعًا أكبر. طلابنا ثروة مستقبل لبنان، ونحن نحاول أن نعطي عمقاً سياسياً ونضالياً للحركة الطلابية”، قال مكرزل.

لم تُختم بعد قوافل شهدائنا، ولن تُختم طالما الأرض ما زالت لقمة غير سائغة، لأننا جعلناها كذلك لهم، لقمة غير سائغة للاحتلال والإرهاب، ومنظومة حكم بائد يتحكم بكيان لبنان وحريته. هل من شهيد جديد يا شباب؟ أكيد وها هو وقف الى جانبهم حين أمطر أيلول وفاء، ها هو المناضل المعتّق في زمنه، إيلي الحصروني، ينضم الى الاحتفال مع رفاقه الشهداء، إيلي ابن عين ابل الذي تجرأ وأسس منسقية منطقة بنت جبيل لعشرات السنين، بقي ثابتاً في أرضه على رغم كل شيء، ليعطي دروسًا بالصمود وليشجع الشباب على البقاء في مكان محاصر بغالبية تابعة لـ”حزب الله” وحركة “أمل”، ومع ذلك تجاوز كل المطبات، وكان خادم أهله ومنطقته الأمين، وتحوّل الى مرجعية أهل المنطقة بسبب تفانيه وانفتاحه على الجميع من دون استثناء، فنصبوا له كميناً، واغتالوه، قتلوا الجسد في المناضل النبيل، ليرسلوا عبره رسائل دموية كما هي عادتهم، بأن لا مقاومة إلا تلك، ولا مناضلين إلا أولئك، ونحن نجيب أن لا مقاومة فعلية أنقذت لبنان إلا “المقاومة اللبنانية”، وإيلي كما كل الشهداء، ما بيموتوا لأن “القوات” روح حاضرة في ضمير ووجدان هذه الأرض”. الحصروني قصة كبيرة وعملية قتل مدبرة، رجل مقاوم نشيط ومؤثر، ويعمل في أماكن صعبة جدًا، وكان عنده قوة حضور وإرادة كبيرة، لذلك اغتالوه لينالوا منا، ولن ينجحوا، نحن في انتظار نتائج التحقيقات لتصل الى مكان ما، وعندما لا تصل بيكون معروف مين الفاعل، لكن نحن سنواكب للآخر” يقول الأمين العام.

مناضل آخر، شاء أن يضمه أيلول الى قوافل المناضلين في عبق السماء، في تلك المشهدية الحنونة في قداس الشهداء، وإن لم يكن شهيدا، هو المناضل غسان النداف، “المناضل الأبي الشجاع، ذو الأخلاق الرفيعة، الذي واكب بشير وكان معه من مؤسسي “القوات اللبنانية”. واكب الحكيم بكل المراحل خصوصًا بوقت الاضطهاد. تضحياته كبيرة كبيرة، يعمل بصمت ومن خلف الكواليس دائمًا. غسان صاحب قضية عمل لأجلها طيلة سنين عمره ومن دون مقابل، مناضل نبيل شجاع، كرّمناه قبل موته بأسابيع، بناء على طلب الحكيم. “هالناس صاروا قلال، غسان لا يحب المراكز وكان يعطي ويضحي بصمت ومن دون مقابل، هو من تلك القماشة النادرة وواجبنا أن نحافظ على هذه الروح وهذه القماشة بالقوات”، يقول أبي عقل.

“النداف شخصية مقاوماتية كبيرة بـ”القوات اللبنانية”، وتكريمه قبل أن يخطفه المرض من بيننا، جاء كالبلسم على أوجاعه، خصوصًا عندما رأى غالبية رفاقه القدامى والجدد يلهفون عليه ويشاركونه ذاك التكريم المتواضع لمسيرة نضالية كبيرة، وأقول له لا تخف غسان قواتك بين أياد أمينة”، يقول عنه مكرزل.

كأن الزمن وقف هناك عند حفافي المذبح في قداس الشهداء، وقف زمن الصلاة على شجن أيلول المنهمر مواسم استشهاد ورجاء. يا أيلول كيف تتسع لعيون الأحبة تلك، يا عيون الأحبّة كيف اتسعتِ لكل ذاك الاستشهاد؟ كيف تركتِ البدلات المزركشة بعبق الدم وهي مجمّدة بزمنها من أزمان وأزمان؟ كيف لا تموت الحكاية؟ كيف لا يبهت لون الدم ويبقى هيك قانيًا صافيًا؟! هذه حكاية استثنائية لا ترويها إلا المقاومة اللبنانية. “خليكن بالوعد وما تتركوا لبنان” يقولون، وكيف نفعل وأنتم في الاستشهاد لتبقى لنا الحرية؟!…

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل