“الفالق” بين ارتكابات القاتل وشهادة المقاتل

حجم الخط

كتب أنطوان سلمون في “المسيرة” – العدد 1744

في تاريخ الأوطان واستقلال الدول وتاريخها هناك جدلية دائمة بين الوطني والعميل، وبين المقاوم والمتعامل، وبين المقدام والجبان، وهناك من يرسِّم حدود هذه الجدلية بخيط رفيع مما يخلط بعضها ببعض ويصعب تمييزها لينتحل العميل صفة الوطني والمتعامل صفة المقاوم والجبان صفة المقدام. ولكن الخلط يبقى عصيّاً ومستحيلا بين من احترف القتل للقتل وبين من امتشق السلاح دفاعًا عن أرضه وعرضه وتاريخه ومبادئه وليتّسع الفارق الى حدود “الفالق” الطبيعي الزلزالي.

كثيرة هي الافتراءات والأضاليل والتشويهات التي طالت المقاومين الشرفاء في لبنان، والذين دافعوا عن “لبنان أولا” – قبل أن يصبح شعاراً “لفظياً” للبعض الذي لم يعمل عليه لا بالممارسة ولا بالنضال ولا بالدم – وأكثر منها هي الإنتحالات لصفات الشرف والمقاومة والإيمان والوطنية والتي لا يمت من ينادي بها من شخصيات وأحزاب لتلك الصفات بأي صلة لا من بعيد ولا من قريب.

وخير وصف لما تعرّضت له القوى المقاومة الحيّة من أضاليل واضطهادات وارتكابات، هو في ما أدلى به رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع  في مرحلة اعتقاله ومحاكماته “الظالمة”، إذ قال في  27 نيسان 1999 في مرافعته أمام المجلس العدلي في قضية رشيد كرامي: “منذ 5 سنوات وفي هذه القاعة بالذات، وبنية إيجاد الأجواء الضاغطة اللازمة، انهمر الكلام بحق القوات اللبنانية ودورها في حرب لبنان، وأبقاها جثة هامدة حتى يخيّل إلينا أن لبنان لم يكن ساحة للقتال بين مجموعة من الفئات والأحزاب، بل إنه كان مقسّماً الى مجموعتين الأولى تقاتل باسم الملائكة وترتدي الأبيض وتحمل الشموع وتدعو الى السلام، والثانية هي الشياطين وترتدي الأسود، لم يكن من همّ لهم إلا إلغاء الدولة والتقسيم، فيما لم تكن لمجموعة الملائكة لا رغبات ولا طلبات وأن دورة القتل لم تتوقف إلا بعد إجراء الاصلاحات السياسية التي كانت تُصرّ عليها مجموعة الملائكة قبل تحقيق الأمن”.

ومن شهادة هذا المقاتل المناضل أيضًا نقرأ له من نفس المرافعة: “سألوني: قبل اعتقالي على ماذا أنت متّكل؟ وعلى مَن؟ والسؤال في محله، وأنا بالفعل متّكل على قوّة عظمى وهي أعظم بكثير من القوة العظمى الموجودة، لأن هذه القوة هو خالق هذا الكون، ما يرى وما لا يرى.. ومخطئ من يعتقد أن الله قد مات وأنه لا يتدخل، وأنا كلي إيمان أنه في نهاية المطاف لن تكون إلا مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض”.

وهنا لا بد من القول إن الفرق الجوهري بين المرتزق القاتل والشريف المقاتل يكمن في أن الأول استرخص عرضه وأرضه والمبادئ، بينما أغلى الآخر عرضه وأرضه وتمسك بمبادئه، واسترخص دمه ونفسه وماله في سبيلها.

من أفعال “القتال” والمقاومة، نقرأ في شهادة شهيد أيلول الرئيس بشير الجميل في يوم الوعد تاريخ 22 تشرين الثاني 1980: “نحن الثابتون في لبنان والشرق، غيرنا يأتي حينًا ويذهب حينًا آخر. صحيح أن امتداد وجودنا ليس مستقرًا جغرافيًا، لكن وجودنا في حد ذاته دائم الإستقرار. نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه، نحن صليبه وحربته، نحن نوره وناره، قادرون على إحراقه إن أحرقوا أصابعنا، وقادرون على إنارته إن تركونا على حريتنا. فحذار من أي حل لقضية لبنان وأزمة المنطقة لا يأخذ في الإعتبار ثوابت تاريخ المنطقة وإفرازات حرب لبنان”.

وكلمة الرئيس الشهيد ما زالت مدويّة ويتردد صداها في ضمائر المقاومين المستمرين في النضال لتعبّر عن حقيقة مقاومتنا المستمدة من الوجود الحّر ومن الدفاع المشروع المقدّس عن النفس.

وفي نفس الإطار نستحضر ما شهد له وعليه البابا القديس يوحنا بولس الثاني في مؤلف صدر له في أيار عام 2004 بعنوان “قفوا وهيّا بنا”، وهو مزيج من مذكّرات وأفكار وتجربة سنوات طويلة لشخصية لم تتراجع قط عن إيمانها، إذ يقول فيه: “تجب الشهادة للحقيقة حتى لو كان ثمنها الاضطهاد وحتى لو كان ثمنها بذل الدماء.

في العام 1987، وفي ويستربلات غدانسك، خاطبت الشبيبة البولونية، وذكرت لهم هذا المكان وهو رمز بليغ عن الوفاء في لحظة دراماتيكية. ففي هذا المكان، عام 1939، وقفت مجموعة من الجنود الشبان البولونيين لتحارب الغازي الألماني الذي كانت لديه قوى وإمكانيات حربية أكبر بكثير، وخاضت التجربة القصوى مقدّمة شهادة مظفّرة عن شجاعتها ومثابرتها ووفائها”.

… أن نحب الصليب معناه أن نحب التضحية. والشهداء هم مثال على هذا الحب. على غرار المونسنيور ميشال كوزال الذي سيم أسقفاً في 15 آب 1939، أي قبل أسبوعين من بداية الحرب. لم يتخلَّ عن قطيعه خلال النزاع، على الرغم من أنه كان يمكن توقع الثمن الذي سيدفعه نتيجة ذلك. وقد مات في معتقل داشو، حيث كان مثالاً وعوناً للكهنة المعتقلين مثله، حتى لو كانت هذه الكلمات تتضمن زمن تجربة وجهدًا كبيرًا وصليبًا موجعًا، لا ينبغي أن يستبد بنا الخوف.

وتتقاطع نماذج المقاتلين المقاومين البولونيين مع المقاتلين المقاومين اللبنانيين الذين خاضوا معركة قنات 1980 بلحمهم الحيّ بوجه جحافل الجيش السوري، وقد قال فيهم قائدهم الشيخ بشير الجميل يومها:‏ “بضيعة صغيرة بالشمال إسما قنات 40 مقاتل من القوات اللبنانية مدة 6 أيام خربطو حسابات طويلة للسوري بلبنان وبالشمال بصورة خاصة”.

وهنا أيضا نذكّر بما شهد عليه الأبعدون قبل الأقربين عن شهداء القوات ومبدئية قيادتهم، إذ قال الرئيس السابق العماد ميشال عون في 8 كانون الأول 1989: “إن القيّمين على قيادة القوات اللبنانية لم يغيّروا أهدافهم كما يعتقد البعض، وإن شهداء القوات اللبنانية الذين سقطوا في ساحة الشرف دفاعًا عن سيادة واستقلال لبنان ووحدة الصف في الحرية وفي كرامة الوطن لا يُحصَون”.

أما في النموذج الثاني، فهو المرتزق الذي يفخر ويتباهى بأن أكله وشربه ورواتبه وسلاحه وذخائره من دولة يتبع لمرشدها دينيًا سياسيًا عسكريًا واقتصاديا… وفي نفس النموذج يفخر النائب في “حزب الله” نواف الموسوي في 24 تموز 2011 بـ”أن المتهمين منّا قديسون مطوّبون”، ويقصد هنا المتهمين بـ”قتل” الرئيس رفيق الحريري، وشتّان هنا بين “قَتَلَتِهم” القديسين المطوّبين على يدهم وبين البابا المقاوم يوحنا بولس الثاني المعلنة قداسته في 27 نيسان 2014.

ولأن التقديس بالتأليه يُذكر، نقع هنا على “تجديف” آخر للذات الإلهية يعتمده النموذج “القاتل”، إذ صرّح النائب في “حزب الله” علي عمّار متوجّها الى أمين عام حزبه السيد حسن نصرالله بقوله في 26 تشرين الأول 2017: “عندما إنحنيت لتقبيل حذائك شعرت بأنني خرجت من الناسوت ودخلت في عالم الملكوت”…

وفي قراءة أخرى في هذا النموذج، والتي تؤكد أن السلاح هو “الغاية” وأن القتل “وسيلة” غير مشروعة للدفاع عن هذا السلاح ليس إلا، نورد ما قاله نصرالله في 31 آذار 2006: “من يريد أن ينزع سلاح المقاومة بالقوة سنقطع يده ونقطع رأسه وننزع روحه”. كذلك ما قاله عشية 7 أيار 2008 عن أن “السلاح هو للدفاع عن السلاح”، ليعلن في 15 أيار 2009… “7 أيار يوماً مجيداً من أيام المقاومة في لبنان والمطلوب أن لا تنسوا هذا اليوم”. وما يؤكد أن سلاح قتاله هو مرتزق في خدمة دولة إيران ما قاله نصرالله في 10 أيلول 2019: “نحن نرفض أي مشروع حرب على إيران، لأن هذه الحرب ستشعل المنطقة وتدمّر دولاً وشعوباً، ولأنها ستكون حرباً على كل محور المقاومة”.

ومن هذا النموذج أخيراً نقرأ في من يتبع ويلتحق بركاب “القتلة” ويبارك “القتل”، ما قاله الوزير السابق سليمان فرنجية في 3 تشرين الثاني 2012: “سوريا لها ألف سبب وسبب لاغتيال وسام الحسن… وأن عماد مغنية بيسوى ألف وسام الحسن”.

وشهادة للحقيقة ووفاءً للحق وعرفاناً للجميل، لا بد من التنويه بأن القوات اللبنانية كما كانت في الحرب تكاد تكون الوحيدة المستمرة المثابِرة المواظبة على مقاومتها، ولتشكل اليوم مثالاً للتضحية والشهادة والاستشهاد يُحتذى به. في المقابل يحترف مَن ما زال يحمل السلاح غير الشرعي في زمن السلم الارتكابات والموبقات وأفعال الحرب غير الشريفة وغير المطابقة للمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان… كما كان يفعل في زمن الحرب.

ونختم مع الكتاب المقدس العهد الجديد من إنجيل يوحنا: 32:8: “وتعرفون الحق والحق يحرّركم”. ومع شهيد 14 أيلول 1982 الرئيس بشير الجميل: “أتيت أطلب منكم أن تقولوا الحقيقة مهما كانت صعبة. وأننا عندما نقول الحقيقة كما هي، نسعى الى تغييرها وتصحيح الأوضاع، وتجنّب الأخطاء والممارسات غير الصحيحة”.

للإشتراك في “المسيرة” Online:

http://www.almassira.com/subscription/signup/index

from Australia: 0415311113 or: [email protected]​​​​​​​​​​​​​​

المصدر:
المسيرة

خبر عاجل